لقد تابعت السورة الكريمة حديثها عن هذه القصة ، فبينت بعد ذلك قضاء الله العادل فى هؤلاء الظالمين ، حيث حكت لنا ما أوحاه الله إلى نوح - عليه السلام - فى شأنهم ، وما أمره بصنعه . . . فقال - تعالى - :
{ وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ . . . } .
قوله - سبحانه - : { وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } على قوله { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا . . } أى : بعد أن لج قوم من نوح فى طغيانهم ، وصموا آذانهم عن سماع دعوته . . أوحى الله - تعالى - إلى نوح بأن يكتفى بمن معه من المؤمنين ، فإنه لم يبق فى قومه من يتوقع إيمانه بعد الآن ، وبعد أن مكث زمنا طويلا يدعوهم إلى الدخول فى الدين الحق ، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا . .
وقوله : { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } تسلية له - عليه السلام - عما أصابه منهم من أذى .
والابتئاس : الحزن . يقال : ابتأس فلان بالأمر ، إذا بلغه ما يكرهه ويغمه ، والمبتئس : الكاره الحزين فى استكانة .
أى : فلا تحزن بسبب إصرارهم على كفرهم ، وتماديهم فى سفاهاتهم وطغيانهم ، فقد أن الأوان للانتقام منهم .
قال الإِمام ابن كثير : يخبر الله - تعالى - فى هذه الآية ، أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم ، وعذابه لهم ، فدعا عليهم نوح دعوته وهى { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } فمنذ ذلك أوحى الله - تعالى - إليه { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } فلا تحزن عليهم ، ولا يهمنك أمرهم .
ثم يمضي السياق في قصة نوح ؛ يعرض مشهدا ثانيا . مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره :
وأوحي إلى نوح انه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، إنهم مغرقون . .
فقد انتهى الإنذار ، وانتهت الدعوة ، وانتهى الجدل !
( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) . .
فالقلوب المستعدة للإيمان قد آمنت ، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه . هكذا أوحى الله إلى نوح ، وهو أعلم بعباده ، وأعلم بالممكن والممتنع ، فلم يبق مجال للمضي في دعوة لا تفيد . ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء :
( فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) . .
أى لا تحس بالبؤس والقلق ، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم ، لا على نفسك فما هم بضاريك بشيء ، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَىَ نُوحٍ أَنّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأَوْحَى الله إلى نوح لما حقّ على قومه القول ، وأظلهم أمر الله ، أنّهُ لَنْ يُؤْمِنُ : يا نوح بالله فيوحده ويتبعك على ما تدعوه إليه مِنْ قَوْمِكَ إلاّ مَنْ قَدْ آمَن فصدّق بذلك واتبعك . فَلا تَبْتَئِسْ يقول : فلا تستِكنْ ولا تحزن بما كانوا يفعلون ، فإني مهلكهم ومنقذك منهم ومَنِ اتبعك . وأوحي الله ذلك إليه بعد ما دعا عليهم نوح بالهلاك ، فقال : رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا وهو تفتعل من البؤس ، يقال : ابتأس فلان بالأمر يبتئس ابتئاسا ، كما قال لبيد بن ربيعة :
فِي مَأْتَمٍ كَنِعاجِ صَا *** رَةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقِينا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلا تَبْتَئِسْ قال : لا تحزن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ يقول : فلا تحزن .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ قال : لا تَأْسَ ولا تحزن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ وذلك حين دعا عليهم قالَ رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا . قوله : فَلا تَبْتَئِسْ يقول : فلا تأس ولا تحزن .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمكَ إلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فحينئذ دعا على قومه لما بين الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن .
قرأ أبو البرهسم{[6321]} : «وأَوحى » بفتح الهمزة على إسناد الفعل إلى الله عز وجل ، «إنه » بكسر الهمزة ، وقيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به ، وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول : يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذاباً مجنوناً ؛ رواه عبيد بن عمير وغيره ، وهذه الآية هي التي أيأست نوحاً عليه السلام من قومه ، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً }{[6322]} .
و { تبتئس } من البؤس تفتعل ، ومعناه : لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر - وهو لبيد بن ربيعة - : [ مجزوء الكامل ]
في مأتم كنعاج حا*** رة تبتئس بما لقينا{[6323]}
قال القاضي أبو محمد : وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه ، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم ، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها ، قال ابن عباس وغيره ، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان ، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض ، ما كان ذلك ، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت ، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس ، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله : «أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد قبلي »{[6324]} فلا بد أن نقرر كثيراً من الأمم كان في ذلك الوقت ، وإذا كان ذلك ، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم ؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم ، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحاً هو أول الرسل إلى أهل الأرض ؛ ولا يمكن أيضاً أن نقول : عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }{[6325]} .
والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول : إن نوحاً عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس - بحسب ما ثبت في الحديث - ثم نقول : إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه ، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم ، فتصح الخاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم نقول : إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان ، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر ، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم ، وكان الشرع - ببعث نوح - موجوداً مستقراً .
فقد وجب عليهم النظر ، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه : فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ، أي حتى نوجده ، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة ، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء ؛ ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله ، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد ، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوح صلى الله عليه وسلم .
ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات ، والله الموفق للصواب .
عطف على جملة { قالوا يا نوح قد جادلتنا } [ هود : 32 ] أي بعد ذلك أوحي إلى نوح عليه السّلام { أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن } .
واسم ( أن ) ضمير الشأن دال على أن الجملة بعده أمرهم خطير لأنها تأييس له من إيمان بقية قومه كما دل حرف { لن } المفيد تأبيد النفي في المستقبل ، وذلك شديد عليه ولذلك عقب بتسليته بجملة { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } فالفاء لتفريع التسلية على الخبر المحزن .
والابتئاس افتعال من البؤس وهو الهم والحزن ، أي لا تحزن .
ومعنى الافتعال هنا التأثر بالبؤس الذي أحدثه الخبر المذكور . { بما كانوا يفعلون } هو إصرارهم على الكفر واعتراضهم عن النظر في الدعوة إلى وقت أن أوحي إليه هذا . قال الله تعالى حكاية عنه : { فلم يزدهم دعائي إلاّ فِراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً } [ نوح : 6 ، 7 ] .
وتأكيد الفعل ب { قَد } في قوله : { من قَد آمن } للتنصيص على أن المراد من حصل منهم الإيمان يقيناً دون الذين ترددوا .