ثم بين - سبحانه - أن ما أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - هو خير الآيات وأخلدها وأشرفها ، وأنه يشرف الأمة التى تنتسب إليه ، وأن الأمم السابقة التى كذبت بالخوارق والمعجزات التى جاء بها الرسل - عليهم السلام - أهلكها الله - تعالى - هلاك استئصال - فقال - تعالى - : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً . . . } .
قال الآلوسى : " قوله - تعالى - : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً . . . } كلام مستأنف لتحقيق حقية القرآن العظيم ، الذى ذكر فى صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته ، واستهزاؤهم به ، واضطرابهم فى أمره ، وبيان علو مرتبته ، إثر تحقيق رسالته - صلى الله عليه وسلم - ، ببيان أنه كسائر الرسل الكرام ، وقد صدر الكلام بالتوكيد القسمى ، إظهاراً لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا ، بأن المخاطبين فى أقصى مراتب النكير ، والخطاب لقريش ، وجوز أن يكون لجميع العرب . " .
والمعنى : لقد أنزلنا إليكم ما معشر العرب عن طريق رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كتابا عظيم الشأن ، نير البرهان ، مشتملا على ما يسعدكم ، وهذا الكتاب { فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أى : فيه شرفكم ، وعلو منزلتكم ، وحسن موعظتكم ، وشفاء صدوركم .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ذلك ، مع أن هذا الأمر واضح ، ولا يحتاج إلى جدال أو مناقشة .
فالاستفهام لإنكار عدم تدبرهم فى شأن هذا الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - ليظفروا بسببه بالذكر الجميل ، وبالموعظة الحسنة ، كما قال - تعالى - { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } وإن من مظاهر كون القرآن الكريم فيه ذكر العرب وشرفهم ، أنه نزل بلغتهم ، وأنه المعجزة الباقية الخالدة بخلاف غيره من المعجزات التى أيد الله - تعالى - بها الرسل السابقين ، وأنه الكتاب الذى قادوا به البشرية قرونا طويلة . عندما حملوه إلى الناس ، فقرأوه عليهم ، وشرحوا لهم أحكامه وآدابه وتشريعاته . . . . وما أصيب العرب فى دينهم ودنياهم إلا يوم أن تخلوا عن العمل بهدايات هذا الكتاب ، وقصروا فى تبليغه إلى الناس .
هذه السنة يخوف الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالإسراف عليه ، وتكذيبه ، وإيذائه والمؤمنين معه . وينبههم إلى أنه رحمة بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية ، يتبعها هلاكهم ، إذا هم كذبوا بها كما كذب من قبلهم . إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم ، ويقوم حياتهم ، ويخلق منهم أمة ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس . وهو مفتوح للعقول تتدبره ، وترتفع به في سلم البشرية :
( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ? ) . .
إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال ، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد ، ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل .
ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا . فلم يكن لهم قبله ذكر ، ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به . ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب ، وقادوا به البشرية قرونا طويلة ، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب . حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية ، وانحط فيها ذكرهم ، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس ، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون !
وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد . وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة . فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم ، لأنها تجد عندهم ما تنتفع به . فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب . فما هم ? وما ذاك ? وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب ? إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة . . لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب . فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية ، ولا مدلول له في معجم الحضارة ! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته . وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة !
. . ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم ، وهو يقول للمشركين ، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيب : ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ? ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه ، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ، فيه حديثكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قوله : فِيهِ ذِكْرُكُمْ قال : حديثكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ كَتابا فيه ذِكْرُكُمْ قال : حديثكم : أفَلا تَعْقِلونَ قال : «قد أفلح » بَلْ أتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا سفيان : نزل القرآن بمكارم الأخلاق ، ألم تسمعه يقول : لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ كِتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أفَلا تَعْقِلُونَ ؟
وقال آخرون : بل عُني بالذكر في هذا الموضع : الشرفُ ، وقالوا : معنى الكلام : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه شرفكم .
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أشبه بمعنى الكلمة ، وهو نحو مما قال سفيان الذي حكينا عنه ، وذلك أنه شرفٌ لمن اتبعه وعمل بما فيه .
ثم وبخهم تعالى بقوله : { لقد أنزلنا } الآية و «الكتاب » القرآن . وقوله تعالى : { فيه ذكركم } يحتمل أن يكون في الذكر الذي أنزله الله تعالى إليكم بأمر دينكم وآخرتكم ونجاتكم من عذابه ، فأضاف الذكر إليهم حيث هو في أمرهم ويحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الآية . كما تذكر عظام الأُمور ، وفي هذا تحريض ثم تأكد التحريض بقوله { أفلا تعقلون } وحركهم ذلك إلى النصر ، ثم مثل لهم على جهة التوعد بمن سلف من الأُمم المعذبة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.