التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (13)

ثم أكد - سبحانه - وجوب الانقياد لأحكامه ، وبشر المطيعين بحسن الثواب . وأنذر العصاة بسوء العقاب فقال : { تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم } .

واسم الإِشارة { تِلْكَ } يعود إلى الأحكام المذكورة فى شأن المواريث وغيرها . والمعنى : تلك الأحكام التى ذكرها - سبحانه - عن المواريث وغيرها { حُدُودُ الله } أى شرائعه وتكاليفه التى شرعها لعباده .

والحدود جمع حد . وحد الشئ طرفه الذى يمتاز به عن غيره . ومنه حدود البيت أى أطرافه التى تميزه عن بقية البيوت .

والمراد بحدود الله هنا الشرائع التى شرعها - سبحانه - لعباده بحيث لا يجوز لهم تجاوزها ومخالفتها .

وقد أطلق - سبحانه - على هذه الشرائع كلمة الحدود على سبيل المجاز لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها .

ثم قال - تعالى - { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } أى فيما أمر به من الأحكام ، وفيما شرعه من شرائع تتعلق بالمواريث وغيرها .

{ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى تجرى من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَا } أى باقين فيها لا يموتون ولا يفنون ولا يخرجون منها وقوله { وذلك الفوز العظيم } أى وذلك المذكور من دخول الجنة الخالدة الباقية بمن فيها هو الفوز العظيم ، والفلاح الذى ليس بعده فلاح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (13)

1

توكيد بعد توكيد للقاعدة الأساسية في هذه العقيدة . قاعدة التلقي من الله وحده ، وإلا فهو الكفر والعصيان والخروج من هذا الدين .

وهذا ما تقرره الآيتان التاليتان في السورة تعقيبا نهائيا على تلك الوصايا والفرائض . حيث يسميها الله بالحدود :

( تلك حدود الله . ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . وذلك الفوز العظيم . ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ، وله عذاب مهين ) . .

تلك الفرائض ، وتلك التشريعات ، التي شرعها الله لتقسيم التركات ، وفق علمه وحكمته ، ولتنظيم العلاقات العائلية في الأسرة ، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع . . ( تلك حدود الله ) . . حدود الله التي أقامها لتكون هي الفيصل في تلك العلاقات ، ولتكون هي الحكم في التوزيع والتقسيم .

ويترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم . كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين . .

لماذا ؟ لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث ؛ وفي جزئية من هذا التشريع ، وحد من حدوده ؟

إن الآثار تبدو أضخم من الفعل . . لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق . .

إن هذا الأمر تتولى بيانه نصوص كثيرة في السورة ستجيء . وقد أشرنا إليها في وهي النصوص التي تبين معنى الدين ، وشرط الإيمان ، وحد الإسلام . ولكن لا بأس أن نستعجل بيان هذا الأمر - على وجه الإجمال - بمناسبة هاتين الآيتين الخطيرتين ، في هذا التعقيب على آيتي المواريث :

إن الأمر في هذا الدين - الإسلام - بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ . . إن الأمر في دين الله كله هو : لمن الألوهية في هذه الأرض ؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس ؟

وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين ، يترتب كل شيء في أمر هذا الدين . وكل شيء في أمر الناس أجمعين !

لمن الألوهية ؟ ولمن الربوبية ؟

لله وحده - بلا شريك من خلقه - فهو الإيمان إذن ، وهو الإسلام ، وهو الدين .

لشركاء من خلقه معه ، أو لشركاء من خلقه دونه ، فهو الشرك إذن أو الكفر المبين .

وأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده ، فهي الدينونة من العباد لله وحده . وهي العبودية من الناس لله وحده . وهي الطاعة من البشر لله وحده ، وهي الأتباع لمنهج الله وحده بلا شريك . . فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم . والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم . والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم . . وليس لغيره - أفرادا أو جماعات - شيء من هذا الحق إلابالارتكان إلى شريعة الله . لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية . ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة .

وأما أن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله - شركة مع الله أو أصالة من دونه ! - فهي الدينونة من العباد لغير الله . وهي العبودية من الناس لغير الله . وهي الطاعة من البشر لغير الله . وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين ، التي يضعها ناس من البشر ، لا يستندون في وضعها إلى كتاب الله وسلطانه ؛ إنما يستندون إلى أسناد أخرى ، يستمدون منها السلطان . . ومن ثم فلا دين ، ولا إيمان ، ولا إسلام . إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان . .

هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته . . ومن ثم يستوي أن يكون الخروج على حدود الله في أمر واحد ، أو في الشريعة كلها . . لأن الأمر الواحد هو الدين - على ذلك المعنى - والشريعة كلها هي الدين . . فالعبرة بالقاعدة التي تستند إليها أوضاع الناس . . أهي إخلاص الألوهية والربوبية لله - بكل خصائصها - أو إشراك أحد من خلقه معه . أو استقلال خلقه دونه بالألوهية والربوبية بعضهم على بعض . مهما ادعوا لأنفسهم من الدخول في الدين ! ومهما رددت ألسنتهم - دون واقعهم - أنهم مسلمون !

هذه هي الحقيقة الكبيرة ، التي يشير إليها هذا التعقيب ، الذي يربط بين توزيع أنصبة من التركة على الورثة ، وبين طاعة الله ورسوله ، أو معصية الله ورسوله . وبين جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ؛ ونار خالدة وعذاب مهين !

وهذه هي الحقيقة الكبيرة ، التي تتكىء عليها نصوص كثيرة ، في هذه السورة ، وتعرضها عرضا صريحا حاسما ، لا يقبل المماحكة ، ولا يقبل التأويل .

وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام ، وأين حياتهم من هذا الدين !

/خ14

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (13)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } ، فقال بعضهم : يعني به : تلك شروط الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } يقول : شروط الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : تلك طاعة الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } يعني : طاعة الله ، يعني : المواريث التي سمّى الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : تلك سنة الله وأمره .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : تلك فرائض الله .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما نحن مبيّنوه ، وهو أن حدّ كلّ شيء ما فصل بينه وبين غيره ، ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الأرضين : حدود ، لفصولها بين ما حدّ بها وبين غيره ، فكذلك قوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } معناه : هذه القسمة التي قسمها لكم ربكم ، والفرائض التي فرضها لأحيائكم من موتاكم في هذه الاَية على ما فرض وبين في هاتين الاَيتين حدود الله ، يعني : فصول ما بين طاعة الله ومعصيته في قسمكم مواريث موتاكم ، كما قال ابن عباس . وإنما ترك طاعة الله ، والمعنيّ بذلك حدود طاعة الله اكتفاء بمعرفة المخاطبين بذلك بمعنى الكلام من ذكرها . والدليل على صحة ما قلنا في ذلك قوله : { وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } . . . والاَية التي بعدها : { وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } .

فتأويل الاَية إذا : هذه القسمة التي قسم بينكم أيها الناس عليها ربكم مواريث موتاكم ، فصول فصل بها لكم بين طاعته ومعصيته ، وحددو لكم تنتهون إليها فلا تتعدّوها ، وفصل منكم أهل طاعته من أهل معصيته فيما أمركم به من قسمة مواريث موتاكم بينكم ، وفيما نهاكم عنه منها . ثم أخبر جلّ ثناؤه عما أعدّ لكلّ فريق منهم ، فقال لفريق أهل طاعته في ذلك : { وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } في العمل بما أمره به والانتهاء إلى ما حدّه له في قسمة المواريث وغيرها ، ويجتنب ما نهاه عنه في ذلك وغيره¹ { يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ } ، فقوله : { يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ } يعني : بساتين تجري من تحت غروسها وأشجارها الأنهار . { خالِدِينَ فِيها } يقول : باقين فيها أبدا ، لا يموتون فيها ، ولا يفنون ، ولا يخرجون منها . { وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ } يقول : وإدخال الله إياهم الجنان التي وصفها على ما وصف من ذلك الفوز العظيم يعني : الفَلَح العظيم .

وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ } . . . الاَية ، قال : في شأن المواريث التي ذكر قبل .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } التي حدّ لخلقه وفرائضه بينهم من الميراث والقسمة ، فانتهوا إليها ولا تعدوها إلى غيرها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (13)

{ تلك } إشارة إلى الأحكام التي قدمت في أمر اليتامى والوصايا والمواريث . { حدود الله } شرائعه التي هي كالحدود المحدودة التي لا يجوز مجاوزتها . { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (13)

وقوله : { تلك حدود الله } الآية { تلك } إشارة إلى القسمة المتقدمة في المواريث ، والحد : الحجز المانع لأمر ما أن يدخل على غيره أو يدخل عليه غيره ، ومن هذا قولهم للبواب حداد لأنه يمنع ، ومنه إحداد المرأة وهو امتناعها عن الزينة ، هذا هو الحد في هذه الآية ، وقوله : { من تحتها } يريد من تحت بنائها ، وأشجارها الذي من أجله سميت جنة ، لأن أنهار الجنة إنما هي على وجه أرضها في غير أخاديد ، وحكى الطبري : أن الحدود عند السدي هنا شروط الله ، وعند ابن عباس : طاعة الله ، وعند بعضهم ، سنة الله ، وعند بعضهم ، فرائض الله ، وهذا كله معنى واحد وعبارة مختلفة ، و { خالدين } قال الزجاج : هي حالة على التقدير ، أي مقدرين { خالدين فيها } وجمع { خالدين } على معنى { من } بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ { من } وعكس هذا لا يجوز .