ثم أكد - سبحانه ما سبق أن أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم من ثبات على الحق فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم . . . } أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لك - أيها الرسول الكريم - من سوء عاقبة الأشرار ، وحسن عاقبة الأخيار . فاثبت على هذا الدين القويم ، الذى أوحيناه إليك ، ولا تتحول عن إلى جهة ما .
{ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله } أى : اثبت على هذا الدين القيم ، من قبل أن يأتى يوم القيامة ، الذى لا يقدر أحد على ردِّه أو دفع عذابه إلا الله - تعالى وحده .
ثم بين - سبحانه - أحوال الناس فى هذا اليوم فقال : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } .
أى : يتفرقون . وأصله يتصدعون ، فقلبت تاؤه صاداً وأدغمت ، والتصدع التفرق : يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه قول الشاعر :
وكنا كندْمانَىْ جَذِيمةَ حقبة . . . من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
والمعنى : اثبت على هذا الدين ، من قبل أن يأتي يوم القيامة ، الذى يتفرق فيه الناس إلى فريقين .
وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه ، وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه . .
( فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله . يومئذ يصدعون . من كفر فعليه كفره ؛ ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون . ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله . إنه لا يحب الكافرين ) .
والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه ، وجديته ، واستقامته :
( فأقم وجهك للدين القيم ) . . وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع ، واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فوجّه وجْهَك يا محمد نحوَ الوجه الذي وجّهك إليه ربك للدّينِ القَيّمِ لطاعة ربك ، والمِلةِ المستقيمةِ التي لا اعوجاج فيها عن الحقّ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يقول تعالى ذكره : من قبل مجيءِ يومٍ من أيام الله لا مردّ له لمجيئه ، لأن الله قد قضى بمجيئه فهو لا محالة جاء يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ يقول : يوم يجيء ذلك اليومُ يصدّع الناسُ ، يقول : يتفرّق الناس فرقتين من قولهم : صَدَعتُ الغنم صدعتين : إذا فرقتها فرقتين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فَأقِمْ وَجْهَكَ للدّينِ القَيّمِ الإسلام مِنْ قَبْلِ أنْ يَأَتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ فريق في الجنة ، وفريق في السعير .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ يقول : يتفرّقون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله يَصّدّعُونَ قال : يتفرّقون إلى الجنة ، وإلى النار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأقم وجهك للدين القيم} فأخلص دينك للإسلام المستقيم، فإن غير دين الإسلام ليس بمستقيم.
{من قبل أن يأتي يوم} يوم القيامة.
{لا مرد له} لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم.
{من الله} عز وجل {يومئذ يصدعون} بعد الحساب يتفرقون إلى الجنة وإلى النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فوجّه وجْهَك يا محمد نحوَ الوجه الذي وجّهك إليه ربك "للدّينِ القَيّمِ "لطاعة ربك، والمِلةِ المستقيمةِ التي لا اعوجاج فيها عن الحقّ "مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: من قبل مجيءِ يومٍ من أيام الله لا مردّ له لمجيئه، لأن الله قد قضى بمجيئه فهو لا محالة جاء، "يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ" يقول: يوم يجيء ذلك اليومُ يصدّع الناسُ، يقول: يتفرّق الناس فرقتين من قولهم: صَدَعتُ الغنم صدعتين: إذا فرقتها فرقتين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
القيم: البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج {مِنَ الله} إمّا أن يتعلق بيأتي، فيكون المعنى: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد، كقوله تعالى: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء: 40] أو بمردّ، على معنى: لا يردّه هو بعد أن يجيء به، ولا ردّ له من جهته.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أوضحِ الحق وبالغ في الإعذار، واشتغل بما أنت فيه ولا تحزن عليهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا مع كثرة مرورهم على ديارهم، ونظرهم لآثارهم، وسماعهم لأخبارهم، لم يتعظوا، أشير إلى أنهم عدم، بصرف الخطاب عنهم، وتوجيهه إلى السامع المطيع، فقال مسبباً عما مضى من إقامة الأدلة والوعظ والتخويف: {فأقم} أي يا من لا يفهم عنا حق الفهم سواه، لأنا فضلناه على جميع الخلق.
{للدين القيِّم}...فالزمه واجعله بنصب عينك لا تغفل عنه ولا طرفة عين، لكونه سهلاً فيما تسبب الإعانة عليه في الظاهر بالبيان الذي ليس معه خفاء، وفي الباطن بالجبل عليه حتى أنه ليقبله الأعمى والأصم والأخرس، ويصير فيه كالجبل رسوخاً.
ولما كان حفظ الاستقامة عزيزاً، أعاد التخويف لحفظ أهلها، فقال ميسراً الأمر بعدم استغراق الزمان بإثبات الجار، إشارة إلى الرضا باليسير من العمل ولو كان ساعة من نهار، بشرط الاتصال بالموت: {من قبل} وفك المصدر للتصريح بالاستقبال فقال: {أن يأتي يوم} أي عظيم، وهو يوم القيامة، أو الموت.
وأشار إلى تفرده سبحانه في الملك بقوله: {لا مرد له} ولفت الكلام في رواية قنبل من مظهر العظمة إلى أعظم منه لاقتضاء المقام ذلك وأظهر في رواية الباقين لئلا يتوهم عود الضمير إلى الدين فقال: {من الله} وإذا لم يرده هو لوعده بالإتيان به، وهو ذو الجلال والإكرام، فمن الذي يرده.
ولما حقق إتيانه، فصل أمره مرغباً مرهباً، فقال: {يومئذ} أي إذ يأتي.
{يصدعون} أي تتفرق الخلائق كلهم فرقة قد تخفى على بعضهم -بما أشار إليه الإدغام، فيقولون: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه، وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه.. (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله...
والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه، وجديته، واستقامته: (فأقم وجهك للدين القيم).. وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع، واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفرع على الإنذار والتحذير من عواقب الشرك تثبيتُ الرسول صلى الله عليه وسلم على شريعته، ووعد بأن يأتيه النصر كقوله {واعبد ربك حتى يأتيَك اليقين} [الحجر: 99]، مع التعريض بالإرشاد إلى الخلاص من الشرك باتباع الدّين القيّم، أي الحق.
{القيّم} بوزن فَيْعل، وهي زنة تدل على قوة ما تصَاغ منه، أي: الشديد القيام، والقيام هنا مجاز في الإصابة لأن الصواب يشبَّه بالقيام، وضده يشبه بالعِوج.
{أقم} و {القيم} محسن الجناس. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر إعراضٌ عن صريح خطاب المشركين. والمقصود التعريض بأنهم حَرموا أنفسهم من اتباع هذا الدين العظيم الذي فيه النجاة. يؤخذ هذا التعريض من أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالدوام على الإسلام ومن قوله عقب ذلك {يومئذ يصَّدَّعون} الآية.
المردّ: مصدر ميمي من الردّ وهو الدفع، و {له} يتعلق به، و {من الله} متعلق ب {يأتي} و {من} ابتدائية. والمراد (باليوم) يوم عذاب في الدنيا وأنه إذا جاء لا يردّه عن المجازَيْن به رادّ لأنه آت من الله. والظاهر أن المراد به يوم بدر.
{يصدعون} أصله يَتصَدَّعون فقلبت التاء صاداً لتقارب مخرجيهما لتأتي التخفيف بالإدغام، والتصدع: مطاوع الصدع، وحقيقة الصدع: الكسر والشق، ومنه تصدع القدح، والتصدع: التفرق والتمايز. ويكون ضمير الجمع عائداً إلى جميع الناس، أي يومئذ يفترق المؤمنون من الكافرين.
{فأقم وجهك} لأن الوجه محل التكريم، وسيد الكائن الإنساني، وموضع العزة فيه، بدليل أن السجود والضراعة لله تعالى تكون بوضع هذا الوجه على الأرض... والمعنى: أقم يدك فيما أمرك الله أن تفعل ورجلك فيما أمرك الله أن تسعى، وقلبك فيما أمرك الله أن تشغل به، وعينك فيما أمرك الله أن تنظر فيه... الخ. يعني: انتهز فرصة حياتك.
{يصدعون} أي: هؤلاء الذين تكاتفوا على حربك وعلى عداوتك وإيذائك، وتعصبوا ضدك ينشقون بعضهم على بعض، ويتفرقون.