التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا} (9)

قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما شرح ما فعله فى حق عباده المخلصين ، وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيتاء الكتاب لموسى - عليه السلام - ، وما فعله فى حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلايا عليهم ، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ، ومعصيته توجب كل بلية وغرامة ، لا جرم أثنى - سبحانه - على القرآن فقال : { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } .

والفعل { يهدى } مأخوذ من الهداية ، ومعناها : الإِرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى البغية . والمفعول محذوف . أى : يهدى الناس .

وقوله - سبحانه - { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } صفة لموصوف محذوف ، أى يهدى الناس إلى الطريقة أو الملة التى هى أقوم .

قال صاحب الكشاف : { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أى : للحالة التى هى أقوم الحالات وأسدها ، أو للملة أو للطريقة . وأينما قدرت لم تجد مع الإِثبات ذوق البلاغة الذى تجده مع الحذف ، لما فى إيهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه .

والمعنى : إن هذا القرآن الكريم ، الذى أنزله الله - تعالى - عليك يا محمد صلى الله عليه وسلم ، يرشد الناس ويدلهم ويهديهم - فى جميع شئونهم الدينية والدنيوية - إلى الملة التى هى أقوم الملل وأعدلها ، وهى ملة الإِسلام . فمنهم من يستجيب لهذه الهداية فيظفر بالسعادة ، ومنهم من يعرض عنها فيبوء بالشقاء .

قال صاحب الظلال ما ملخصه : إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم فى عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة التى لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتى تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ، ونواميس الفطرة البشرية فى تناسق واتساق .

ويهدى للتى هى أقوم ، فى التنسيق بين ظاهر الإِنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه وبين عقيدته وعمله .

ويهدى للتى هى أقوم فى عالم العبادة ، بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل ، ولا تسهل حتى تشيع فى النفس الرخاوة والاستهتار ، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .

ويهدى للتى هى أقوم ، فى علاقات الناس بعضهم ببعض : أفرادا وأزواجا وحكومات وشعوبا ، ودولا وأجناسا .

ويهدى للتى هى أقوم فى نظام الحكم ، ونظام المال ، ونظام الاجتماع ، ونظام التعامل . .

وقوله - سبحانه - : { وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } صفة ثانية من صفات القرآن الكريم .

أى : أن هذا القرآن بجانب هدايته للتى هى أقوم ، فهو - أيضا - يبشر المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات بأن لهم أجرا كبيرا من خالقهم - عز وجل - : أجرا كبيرا لا يعلم مقداره إلا مسديه ومانحه ، وهو الله رب العالمين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا} (9)

ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل ، وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا ؛ بل ضلوا فهلكوا . ينتقل السياق إلى القرآن . القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم :

( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) . .

( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) . .

هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق ، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .

يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .

ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة .

ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .

ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفرادا وأزواجا ، وحكومات وشعوبا ، ودولا وأجناسا ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ، ولا تميل مع المودة والشنآن ؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .

ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .

( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) . . ( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه ، والثاني مقطوع لا ركيزة له . وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن .