التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

ثم ساق - سبحانه - صورة من صور هذا التفصيل المحكم فى كل شئ فقال - تعالى - : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } .

والمراد بطائره : عمله الصادر عنه باختياره وكسبه ، حسبما قدره الله - تعالى - عليه من خير وشر .

أى : وألزمنا كل إنسان مكلف عمله الناتج عنه ، إلزاما لا فكاك له منه ، ولا قدرة له على مفارقته .

وعبر - سبحانه - عن عمل الإِنسان بطائره ، لأن العرب كانوا - كما يقول الآلوسى - يتفاءلون بالطير ، فإذا سافروا ومر بهم الطير زجروه ، فإن مر بهم سانحا - أى من جهة الشمال إلى اليمين - تيمنوا وتفاءلوا ، وإن مر بارحا ، أى : من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير استعارة تصريحية ، لما يشبههما من قدر الله - تعالى - وعمل العبد ، لأنه سبب للخير والشر .

وقوله - سبحانه - : { فى عنقه } تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط بين الإِنسان وعمله .

وخص - سبحانه - العنق بالذكر من بين سائر الأعضاء ، لأن اللزوم فيه أشد ، ولأنه العضو الذى تارة يكون عليه ما يزينه كالقلادة وما يشبهها ، وتارة يكون فيه ما يشينه كالغل والقيد وما يشبههما .

قال الامام ابن كثير : وطائره : هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد ، وغير واحد - من خير أو شر ، يلزم به ويجازى عليه : كما قال - تعالى - : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وكما قال - تعالى - : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه ، قليله وكثيره : ويكتب عليه ليلا ونهارا ، صباحا ومساء .

وقوله - سبحانه - : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } بيان لحاله فى الآخرة بعد بيان حاله فى الدنيا .

والمراد بالكتاب هنا صحائف أعماله التى سجلت عليه فى الدنيا .

أى : ألزمنا كل إنسان مكلف عمله الصادر عنه فى الدنيا ، وجعلناه مسئولا عنه دون غيره . أما فى الآخرة فسنخرج له ما عمله من خير أو شر " في كتاب يلقاه منشورا " أى : مفتوحا بحيث يستطيع قراءته ، ومكشوفا بحيث لا يملك إخفاء شئ منه ، أو تجاهله ، أو المغالطة فيه .

كتاب ظهرت فيه الخبايا والأسرار ظهورا يغنى عن الشهود والجدال .

كتاب مشتمل على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإِنسان ، كما قال - تعالى - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .

وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله ، أي ما يقسم له من العمل ، وهو كناية عما يعمله . وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته ؛ على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية . فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه . وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة . فهو يصور عمله مكشوفا ، لا يملك إخفاؤه ، أو تجاهله أو المغالطة فيه . ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور ، فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس ؛ وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع الطائر من اليوم العصيب ، الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار ،