وبعد أن أرشد - سبحانه - أهل الكتاب إلى الطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسلكوه ، عقب ذلك ببيان ما عليه النصارى من ضلال وبطلان فقال :
{ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ . . . }
اللام في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ } واقعة جواباً لقسم مقدر .
والمراد بالكفر : ستر الحق وإنكاره ، والانغماس في الباطل والضلال . والمعنى : أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح عيسى ابن مريم .
قال بعض العلما ما ملخصه : " لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي " وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله وفيه عنصر إلهي فقد قالوا : إن الألوهية قد حلت فيه . ولازم ذلك القول أن يكون هو الله ، أو هو إله يعبد ومهما يكون فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه . وقد قال في ذلك البيضاوي : " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم . وقيل : لم يصرح به أحد منهم . ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا ، وقالوا : لا إله إلا واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم " .
وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله ، وإن لم يصرحوا بذلك ، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الأولوهية فيه مع الله .
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله - تعالى - في أواخر هذه السورة { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } متلاقيا مع هذا النص الكريم فهنا صرح بلازم قولهم وهناك صرح بذات قولهم .
والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة . وأنها شيء واحد . وينتهون إلى أن المسيح هو الله ، والله هو روح القدس . فقد قال الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس : " طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر هي : الله الأب ، والله الإِبن والله الروح القدس فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء ، وإلى الروح القدس التطهير . غير أن ثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء . أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم ، كما هي في العهد الجديد .
وفي هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله ، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم ، بل بطريق الصريح منه . فهم يصرحون بأن الله هو الابن ، كما أن الله هو الأب ، كما أن الله هو روح القدس .
هذا ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على أولئك الذين قالوا { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } بما يكشف عن جهلهم وضلالهم فقال - تعالى - :
{ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } .
أي : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء النصارى الذين قالوا : { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } قل لهم على سبيل الإِنكار والتوبيخ والتجهيل : من ذا الذي يملك من أمر الله وإرادته شيئاً يدفع به الهلاك عن المسيح وعن أمه وعن سائر أهل الأرض ، إن أراد الله - سبحانه - أن يهلكهم ويبيدهم ؟ لا شك أن أحد لن يستطيع أن يمنع إرادته - سبحانه - لأنه هو المالك لأمر الوجود كله ، ولا يملك أحد من أمره شيئاً يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده ؛ أو يحمله على أمر لا يريده ، أو يستقل بعمل دونه .
وما دام الأمر كذلك فدعوى أن الله هو المسيح ابن مريم ظاهرة البطلان ، لأن المسيح وأمه من مخلوقات الله التي هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها . وحاشا للمخلوق الفاني أن يكون إلها وإنما الألوهية لله الخالق الباقي { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " احتج - سبحانه - على فساد ما ذهب إليه النصارى بقوله : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط .
والتقدير : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره . وقوله { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } أي : فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة . يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله - تعالى - ومنع شيء من مراده .
وقوله : { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } يعني : أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال ، فلما سلم كونه - تعالى - خالقا للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى .
وفي توجيه الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم تثبيت له وتقوية لحجته حتى يبطل قولهم الفاسد إبطالا يزداد معه المؤمنون إيمانا بالحق الذي آمنوا به .
قال أبو السعود : وإنما نفيت المالكية المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن أحد مع تحقيق الإِلزام والتبكيت لا بنفيها عن المسيح فقط ، لتحقيق الحق بنفي الألوهية عن كل ما عداه - سبحانه - وإثبات المطلوب في ضمنه بالطريق البرهاني .
وتعميم إرادة الإِهلاك للكل - مع حصول المطلوب بقصرها على المسيح - لتهويل الخطب ، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره - تعالى - وملكوته . لا يقدر أحد على دفع ما أريد به . فضلا عن دفع ما أريد بغيره .
وللإِيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك ، كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز ، وعدم استحقاق الألوهية .
وتخصيص الأم بالذكر مع اندارجها في عموم المعطوف ، لزيادة تأكيد عجز المسيح ، وأنه هو وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما .
وعطف عليهما قوله { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } من باب عطف العام على الخاص ، ليكونا قد ذكرا مرتين . مرة بالنص عليهما . ومرة بالاندراج في العام ، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإِرادة فيهما .
وقوله { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } تأكيد لاختصاص الألوهية به - تعالى - إثر بيان انتفائها عما سواه .
أي : والله - تعالى - وحده دون أن ينازعه منازع . أو يشاركه مشارك ، ملك جميع الموجودات ، والتصرف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماته . فهو المالك للسموات وما فيها وللأرض وما عليها ، ولما بينهما من فضاء تجري فيه السحب بأمره ، ويطير فيه الطير بإذنه وقدرته . وما المسيح وأمه إلا من جملة ما في الأرض ، فهما عبدان من عباد الله يدينان له - سبحانه - بالعبادة والطاعة والخضوع .
وقال - سبحانه - { وَمَا بَيْنَهُمَا } ولم يقل وما بينهن مع أن السموات بلفظ الجمع ، لأن المراد بالسموات والأرض النوعان أو الصنفان .
أي : ولله - تعالى - وحده ملك السموات والأرض وما بين هذين النوعين من مخلوقات خاخضعة لمشيئة الله وقدرته .
وقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعترى النصارى من شبه في أمر المسيح لولادته من غير أب ، وإحيائه الموتى ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، كل ذلك بإذن الله .
أي أنه - سبحانه - يخلق ما يشاء أن يخلقه من أنواع الخلق بالكيفية التي يريدها تبعا لمشيئته وإرداته .
فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو المعتاد بين الناس ، وتارة يخلقه بدون أب أو أم كما هو الشأن في خلق آدم ، وتارة يخلقه بدون أب كما هو الشأن في خلق عيسى ، إلى ذلك من مخلوقاته التي ليست مقصورة على نوع واحد بل هي شاملة لهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد ، فكل ما تعلقت إرادته بإيجاده أوجده ، وكل ما تعلقت إرادته بإعدامه أعدمه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه ولا حائل دون نفاذ قدرته .
وقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
أي : والله - تعالى - قدير على كل شيء ومالك لكل شيء ومهيمن على كل شيء لا يغلبه شيء طلبه ، ولا يعجزه أمر أراده وما عيسى وأمه إلا من مخلوقاته وعبيده ، وحاشا للمخلوق العاجز أن يكون إلها من دون الله - عز وجل - .
فهذه الآية الكريمة تحكي أقوال النصارى الباطلة في شأن عيسى - عليه السلام - وترد عليهم بما يزهق باطلهم ، ويثبت أن عيسى إنما هو عبد من عباد الله وأن العبادة إنما تكون لله الواحد القهار .
ذلك هو الصراط المستقيم . فأما القول بأن الله هو المسيح بن مريم فهو الكفر ؛ وأما القول بأن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه ، فهو الافتراء الذي لا يستند إلى دليل . . وهذا وذلك من مقولات أهل الكتاب ، التي تخفي نصاعة التوحيد ؛ والتي جاءهم الرسول الأخير ليكشف عن الحقيقة فيها ، ويرد الشاردين المنحرفين عن هذه الحقيقة إليها :
( لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . قل : فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ) . .
إن الذي جاء به عيسى - عليه السلام - من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول .
والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول . . ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات ؛ بسبب دخول الوثنيين في النصرانية ؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد ، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها .
ولم تجيء هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة ؛ ولكنها دخلت على فترات ؛ وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى ؛ حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير ، الذي تحار فيه العقول . حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها !
وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح - عليه السلام - في تلامذته وفي أتباعهم . وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت - وهو إنجيل برنابا - يتحدث عن عيسى - عليه السلام - بوصفه رسولا من عند الله . ثم وقعت بينهم الاختلافات . فمن قائل : إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل . ومن قائل : إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة . ومن قائل : إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب ، ولكنه على هذا مخلوق لله . ومن قائل : إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب . .
ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية " مجمع نيقية " الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة . قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية :
" وكانوا مختلفين في الآراء والأديان . فمنهم من كان يقول : إن المسيح وأمه إلهان من دون الله . وهم " البربرانية " . . ويسمون : " الريمتيين " . ومنهم من كان يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها . وهي مقالة " سابليوس " وشيعته . ومنهم من كان يقول : لم تحبل به مريم تسعة أشهر ، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب ، لأن الكلمة دخلت في أذنها ، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها . وهي مقالة " إليان " وأشياعه . ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره ، وإن ابتداء الابن من مريم ، وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي ، صحبته النعمة الإلهية ، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي " ابن الله " ويقولون : إن الله جوهر قديم واحد ، وأقنوم واحد ، ويسمونه بثلاثة أسماء ، ولا يؤمنون بالكلمة ، ولا بروح القدس . وهي مقالة " بولس الشمشاطي " بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم " البوليقانيون " . ومنهم من كان يقول : إنهم ثلاثة آلهة لم تزل : صالح ، وطالح ، وعدل بينهما . وهي مقالة " مرقيون " اللعين وأصحابه ! وزعموا أن " مرقيون " هو رئيس الحواريين وأنكروا " بطرس " . ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح . وهي مقالة " بولس الرسول " ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا . .
وقد اختار الإمبراطور الروماني " قسطنطين " الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية ! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم ، وشرد أصحاب سائر المذاهب ؛ وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده ، وناسوتية المسيح .
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه :
" إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه . وأنه لم يوجد قبل أن يولد . وأنه وجد من لا شيء . أو من يقول : إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب . وكل من يؤمن أنه خلق ، أو من يقول : إنه قابل للتغيير ، ويعتريه ظل دوران " .
ولكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع " آريوس " وقد غلبت على القسطنطينية ، وأنطاكية ، وبابل ، والإسكندرية ، ومصر .
ثم سار خلاف جديد حول " روح القدس " فقال بعضهم : هو إله ، وقال آخرون : ليس بإله ! فاجتمع " مجمع القسطنطينية الأول " سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر .
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع ، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية :
" قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية : ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله . وليس روح الله شيئا غير حياته . فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق ، فقد قلنا : إن روح الله مخلوق . وإذا قلنا : إن روح الله مخلوق ، فقد قلنا : إن حياته مخلوقة . وإذا قلنا : إن حياته مخلوقة ، فقد زعمنا أنه غير حي . وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به . ومن كفر به وجب عليه اللعن " ! ! !
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع ، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية . وتم " الثالوث " من الآب . والابن . وروح القدس . .
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية . . أو اللاهوت والناسوت كما يقولون . . فقد رأى " نسطور " بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة . فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه ؛ وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم ، فمريم أم الإنسان - في المسيح - وليست أم الإله ! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم - كما نقله عنه ابن البطريق :
" إن هذا الإنسان الذي يقول : إنه المسيح . . بالمحبة متحد مع الابن . . ويقال : إنه الله وابن الله ، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة " . .
ثم يقول : " إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة ، أو هو ملهم من الله ، فلم يرتكب خطيئة ، وما أتى أمرا إدًا
وخالفه في هذا الرآي أسقف رومه ، وبطريرك الإسكندرية ، وأساقفة أنطاكية ، فاتفقوا على عقد مجمع رابع . وانعقد " مجمع أفسس " سنة 431 ميلادية . وقرر هذا المجمع - كما يقول ابن البطريق - :
" أن مريم العذراء والدة الله . وأن المسيح إله حق وإنسان ، معروف بطبيعتين ، متوحد في الأقنوم " . . ولعنوا نسطور !
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد ، انعقد له " مجمع أفسس الثاني " وقرر :
" أن المسيح طبيعة واحدة ، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت " .
ولكن هذا الرأي لم يسلم ؛ واستمرت الخلافات الحادة ؛ فاجتمع مجمع " خلقيدونية " سنة 451 وقرر :
" أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة . وأن اللاهوت طبيعة وحدها ، والناسوت طبيعه وحدها ، التقتا في المسيح " . . ولعنوا مجمع أفسس الثاني !
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع . ووقعت بين المذهب المصري " المنوفيسية " والمذهب " الملوكاني " الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية ، التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة : " سير . ت . و . أرنولد " في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " في مطالع تفسير سورة آل عمران . .
ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح ؛ والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف ، وما تزال إلى اليوم ثائرة . .
وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية ؛ ولتقول كلمة الفصل ؛ ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة :
لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . . ( لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ) . .
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع :
( قل : فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم ، وأمه ، ومن في الأرض جميعا ) .
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه ، وبين ذات عيسى - عليه السلام - وذات أمه ، وكل ذات أخرى ، في نصاعة قاطعة حاسمة . فذات الله - سبحانه - واحدة . ومشيئته طليقة ، وسلطانه متفرد ، ولا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح أبن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا . .
وهو - سبحانه - مالك كل شيء ، وخالق كل شيء ، والخالق غير المخلوق . وكل شيء مخلوق :
( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء ، والله على كل شيء قدير ) . .
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية ، ووضوحها وبساطتها . . وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية . في تقرير حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين . بلا غبش ولا شبهة ولا غموض . .