التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ} (6)

وقوله - تعالى - : { يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } حكاية لما حدث من هذا الفريق الكاره للقتال ، وتصوير معجز لما استبد به من خوف وفزع .

والمراد بقوله { يُجَادِلُونَكَ } مجادلتهم للنبى صلى الله عليه وسلم في شأن القتال وقولهم له : ما كان خروجنا إلا للعير ، ولو أخبرتنا بالقتال لأعددنا العدة له .

والضمير يعود للفريق الذي كان كارهاً للقتال .

والمراد بالحق الذي جادلوا فيه : أمر القتال الذي حضهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يعدوا أنفسهم له .

وقوله : { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } متعلق : { يُجَادِلُونَكَ } و { مَا } مصدرية والضمير في الفعل { تَبَيَّنَ } يعود على الحق .

والمراد بتبينه : إعلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بأنهم سينصرون على أعدائهم فقد روى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم قبل نجاة العير بأن الله وعده الظفر بإحدى الطائفتين : العير أو النفير ، فلما نجت العير علم أن الظفر الموعود به إنما هو النفير ، أى : على المشركين الذين استنفرهم أبو سفيان للقتال لا على العير ، أى : الإِبل الحاملة لأموال المشركين .

والمعنى : يجادلك بعض أصحابك - يا محمد - { فِي الحق } أي في أمر القتال { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } أى ، بعدما تبين لهم الحق بإخبارك إياهم بأن النصر سيكون حليفهم ، وأنه لا مفر لهم من لقاء قريش تحقيقاً لوعد الله الذي وعد بإحدى الطائفتين .

وقوله : { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } أى : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر إلى أسبابه ، ومشاهد لموجباته .

والجملة في محل نصب على الحالية من الضمير في قوله : { لَكَارِهُونَ } .

وفى هذه الجملة الكريمة تصوير معجز لما استولى على هذا الفريق من خوف وفزع من القتال بسبب قلة عددهم وعددهم .

وقوله : { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } زيادة في لومهم ، لأن الجدال في الحق بعد تنبينه أقبح من الجدال فيه قبل ظهوره .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ} (6)

5

فهذا ما حاك في نفوس فريق من المسلمين يومئذ ، وما كرهوا من أجله القتال ، حتى ليقول عنهم القرآن الكريم : ( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) . . وذلك بعد ما تبين الحق ، وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار بعدما أفلتت إحدى الطائفتين وهي - العير - وأن عليهم أن يلقوا الطائفة الأخرى ، وقد قدر الله لهم لقاءها وقدر أنها ستكون لهم . كانت ما كانت . كانت العير أو كانت النفير . كانت الضعيفة التي لا شوكة لها أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة .

وإنها لحال تتكشف فيها النفس البشرية أمام الخطر المباشر ؛ ويتجلى فيها أثر المواجهة الواقعية - على الرغم من الاعتقاد القلبي - والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع ؛ فلا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة ؛ ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة حين نراها تهتز في مواجهة الخطر - على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة - فحسب هذه النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق ، وتواجه الخطر فعلاً ، وتنتصر على الهزة الأولى ! . . لقد كان هؤلاء هم أهل بدر ، الذين قال فيهم رسول الله [ ص ] : " وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم " . . وهذا يكفي . .