ثم نهى - سبحانه - عن القول على الله - تعالى - بغير علم اتباعا للظن والأوهام ، فقال : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ . . . } .
قال الآلوسي ما ملخصه : قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب . . } ، " ما " موصولة ، والعائد محذوف ، أي : ولا تقولوا - في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة - هذا حلال وهذا حرام ، من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر ، فضلا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه ، بل مجرد قول باللسان .
ولفظ " الكذب " ، منتصب على أنه مفعول به ل { تقولوا } ، وقوله - سبحانه - : { هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } ، بدل منه . . .
والمعنى : ولا تقولوا - أيها الجاهلون - للشيء الكذب الذي تصفه ألسنتكم ، وتحكيه وتنطق به بدون بينة أو برهان . هذا الشيء حلال وهذا الشيء حرام .
وقد حكى الله - تعالى - عن هؤلاء الجاهلين في آيات كثيرة ، أنهم حللوا وحرموا أشياء من عند أنفسهم ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا . . } ، وقوله - سبحانه - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } ، قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه . فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر . . .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : ويصح أن يكون لفظ الكذب مفعولا ل " تصف " ، وأن يكون قوله : { هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } ، مفعولا ل " تقولوا " .
وعلى هذا الوجه يكون في وصف ألسنتهم الكذب ، مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ، حتى لكأن ماهية الكذب كانت مجهولة ، فكشفت عنها ألسنتهم ووضحتها ووصفتها ونعتتها بالنعوت التي جلتها . . ومنه قول الشاعر :
أضحت يمينُك من جُودٍ مصوَّرةً . . . لا ، بل يمينك منها صُوِّرَ الجودُ
واللام في قوله : { لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } ، هي لام الصيرورة والعاقبة ، أو هي - كما يقول صاحب الكشاف - من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض ؛ لأن ما صدر عنهم من تحليل وتحريم دون أن يأذن به الله ، ليس الغرض منه افتراء الكذب فحسب ، بل هناك أغراض أخرى ، كظهورهم بمظهر أولي العلم ، وكحبهم للتباهي والتفاخر . .
وقوله : { تفتروا } ، من الافتراء ، وهو أشنع أنواع الكذب ؛ لأنه اختلاق للكذب الذي لايستند إلى شيء من الواقع .
أي : ولا تقولوا لما تحكيه ألسنتكم من أقوال وأحكام لا صحة لها ، هذا حلال وهذا حرام ، لتنسبوا ذلك إلى الله - تعالى - كذبا وزورا .
قال الإِمام ابن كثير : ويدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ، ليس له فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هََذَا حَلاَلٌ وَهََذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنتُكُمُ الكَذِبَ فتكون تصف الكذب ، بمعنى : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب ، فتكون «ما » بمعنى المصدر . وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ : «وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبِ » هذا بخفض الكذب ، بمعنى : ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم ، هَذَا حَلاَلٌ وهذَا حَرَامٌ ، فيجعل الكذب ترجمة عن «ما » التي في «لِمَا » ، فتخفضه بما تخفض به «ما » . وقد حُكي عن بعضهم : «لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكمُ الكُذُبُ » يرفع «الكُذُب » ، فيجعل الكُذُب من صفة الألسنة ، ويخرج على فُعُل على أنه جمع كُذُوب وكُذُب ، مثل شُكُور وشُكُر .
والصواب عندي من القراءة في ذلك نصب «الكَذِب » لإجماع الحجة من القرّاء عليه . فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك لما ذكرنا : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذبَ فيما رزق الله عباده من المطاعم : هذا حلال ، وهذا حرام ، كي تفتروا على الله بقيلكم ذلك الكذبَ ، فإن الله لم يحرم من ذلك ما تحرّمون ، ولا أحلّ كثيرا مما تُحِلّون . ثم تقدّم إليهم بالوعيد على كذبهم عليه ، فقال : { إنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ } ، يقول : إن الذين يتخرّصون على الله الكذب ويختلقونه ، لا يخلّدون في الدنيا ولا يبقون فيها ، إنما يتمتعون فيها قليلاً . وقال : { مَتاعٌ قَلِيلٌ } فرفع ، لأن المعنى الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل ، أو لهم متاع قليل في الدنيا . وقوله : { ولَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ } ، يقول : ثم إلينا مرجعهم ومعادهم ، ولهم على كذبهم وافترائهم على الله بما كانوا يفترون عذاب عند مصيرهم إليه أليم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : { لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذَا حَلالٌ وهذَا حَرَامٌ } ، في البحيرة والسائبة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : البحائر والسوائب .
عاد الخطاب إلى المشركين بقرينة قوله : { لما تصف ألسنتكم الكذب } فالجملة معطوفة على جملة { وضرب الله مثلاً قرية } [ سورة النحل : 112 ] الآية .
وفيه تعريض بتحذير المسلمين لأنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية ، فربّما بقيت في نفوس بعضهم كراهية أكل ما كانوا يتعفّفون عن أكله في الجاهلية .
وعلّق النهي بقولهم : { هذا حلال وهذا حرام } . ولم يعلّق بالأمر بأكل ما عدا ما حُرم لأن المقصود النهي عن جعل الحلال حراماً والحرام حلالاً لا أكل جميع الحلال وترك جميع الحرام حتى في حال الاضطرار ، لأن إمساك المرء عن أكل شيء لكراهيَةٍ أو عَيْف هو عمل قاصر على ذاته . وأما قول : { وهذا حرام } فهو يفضي إلى التحجير على غيره ممن يشتهي أن يتناوله .
واللام في قوله : { لما تصف } هي إحدى اللامين اللّتين يتعدّى بهما فعل القول وهي التي بمعنى ( عن ) الداخلة على المتحدّث عنه فهي كاللام في قوله : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } [ سورة آل عمران : 168 ] ، أي قالوا عن إخوانهم . وليست هي لام التقوية الداخلة على المخاطب بالقول .
{ وتصف } معناه تذكر وصْفاً وحالاً ، كما في قوله تعالى : { وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى } [ سورة النحل : 62 ] . وقد تقدم ذلك في هذه السورة ، أي لا تقولوا ذلك وصفاً كَذباً لأنه تقَوّل لم يقله الذي له التحليل والتحريم وهو اللّهُ تعالى .
وانتصب { الكذب } على المفعول المطلق ل { تصف } ، أي وصفاً كذباً ، لأنه مخالف للواقع ، لأن الذي له التحليل والتحريم لم ينبئهم بما قالوا ولا نصب لهم دَلِيلاً عليه .
وجملة { هذا حلال وهذا حرام } هي مقول { تقولوا } ، واسم الإشارة حكاية بالمعنى لأوصافهم أشياء بالحِلّ وأشياء بالتحّريم .
و { لتفتروا } علة ل { تقولوا } باعتبار كون الافتراء حاصلاً ، لا باعتبار كونه مقصوداً للقائلين ، فهي لام العاقبة وليست لام العلّة . وقد تقدّم قريباً أن المقصد منها تنزيل الحاصل المحقّق حصولُه بعدَ الفعل منزلةَ الغرض المقصود من الفعل .
وافتراء الكذب تقدّم آنفاً . والذين يفترون هم المشركون الذين حرموا أشياء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.