اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ} (116)

قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } الآية ، لما حصر المحرَّمات في تلك الأربعة ، بالغ في تأكيد زيادة الحصر ، وزيف طريقة الكفَّار في الزِّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة ، وفي النُّقصان عنها أخرى ؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمُونَ البَحيرةَ والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَام ، وكانوا يقولون : { مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : 139 ] ، فقد زادوا في المحرَّمات وزادوا أيضاً في المحلَّلات ؛ لأنهم حلَّلوا الميتة ، والدَّم ، ولحم الخنزير ، وما أهلَّ به لغير الله ، فبيَّن - تعالى - أن المحرَّمات هذه هي الأربعة ، وبيَّن أن الأشياء التي يقولون : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، كذبٌ وافتراء على الله تعالى ، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب .

قوله : " الكَذِبَ " العامة على فتح الكاف ، وكسر الذَّال ، ونصب الباء ، وفيه أربعة أوجه : أظهرها : أنه منصوب على المفعول به ، وناصبه : " تَصِفُ " ، و " مَا " مصدرية ، ويكون معمول القول الجملة من قوله : { هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } ، و " لِمَا تَصفُ " علّة للنَّهْي عن قول ذلك ، أي : ولا تقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب ، وإلى هذا نحا الزجاج [ رحمه الله تعالى ] والكسائي .

والمعنى : لا تحلِّلُوا ولا تحرِّمُوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجَّة .

فإن قيل : حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التِّكرار ؛ لأن قوله : { لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } عين ذلك .

فالجواب : أن قوله : { لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ } ، ليس فيه بيان أنه كذب على الله تعالى ، فأعاد قوله : { لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } ، ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد ؛ ونظائره في القرآن كثيرة ، وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة .

الثاني : أن ينتصب مفعولاً به للقول ، ويكون قوله : " هذَا حَلالٌ " بدلاً من " الكَذِب " ؛ لأنه عينه ، أو يكون مفعولاً بمضمر ، أي : فيقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، و " لِمَا تَصِفُ " علَّة أيضاً ، والتقدير : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه ؛ وذلك أن القول يطلب الكذب ، و " تَصِفُ " أيضاً يطلبه ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، وفيه نظر .

الثالث : أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على " مَا " ، إذا قلنا : إنَّها بمعنى الذي ، والتقدير : لما تصفه ، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما الله تعالى .

الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني ؛ ذكره أبو البقاء ، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه .

وقرأ{[20115]} الحسن ، وابن يعمر ، وطلحة : " الكَذبِ " بالخفض ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه بدلٌ من الموصول ، أي : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب ، جعله نفس الكذب ؛ لأنَّه هو .

والثاني : - ذكره الزمخشري- : أن يكون نعتاً ل " مَا " المصدرية .

ورده أبو حيَّان : بأن النُّحاة نصُّوا على أن المصدر المنسبك من " أنْ " والفعل لا ينعت ؛ لا يقال : يُعْجِبني أن تخرج السريع ، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين " أنْ " في النَّعت .

وقرأ ابن أبي عبلة ، ومعاذ بن جبل - رحمهما الله{[20116]}- : بضمِّ الكاف والذَّال ، ورفع الباء صفة للألسنة ، جمع كذوب ؛ كصَبُور وصُبُر ، أو جمع كَاذِب ، كشَارِف وشُرُف ، أو جمع كَذَّاب ؛ نحو " كتَّاب وكُتُب " ، وقرأ مسلمة{[20117]} بن محارب فيما نقله ابن عطيَّة كذلك ، إلا أنه نصب الباء ، وفيه ثلاثة أوجهٍ ذكرها الزمخشري :

أحدها : أن تكون منصوبة على الشَّتم ، يعني : وهي في الأصل نعت للألسنة ؛ كما في القراءة قبلها .

الثاني : أن تكون بمعنى الكلم الكواذب ، يعني : أنها مفعول بها ، والعامل فيها إما " تَصِفُ " ، وإمَّا القول على ما مرَّ ، أي : لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب .

الثالث : أن يكون جمع الكذاب ، من قولك : كذب كذاباً ، يعني : فيكون منصوباً على المصدر ؛ لأنه من معنى وصف الألسنة ، فيكون نحو : كُتُب في جمع كِتَاب .

وقد قرأ الكسائي{[20118]} : " ولا كِذَاباً " بالتخفيف ، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله - تعالى - .

واعلم أن قوله : { تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } من فصيح الكلام وبليغه ، كأن ماهيَّة الكذب وحقيقته مجهولة ، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب ، ويوضِّح ماهيته ، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذباً ؛ ونظيره قول أبي العلاء المعريِّ : [ الوافر ]

سَرَى بَرْقُ المَعرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ *** فَباتَ بِرامَةٍ يَصِفُ الكَلالا{[20119]}

المعنى : إذا سرى ذلك البرق يصف الكلال ، فكذا هاهنا .

فصل

وروى الدَّارمي بإسناده عن الأعمش قال : " ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلالاً ولا حراماً ، ولكن كان يقول : كانوا يتكرَّهون ، وكان يستحبُّون " {[20120]} وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا النَّاس أن يقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، ولكن يقولوا : إيَّاكم كذا وكذا ، لم أكن لأصنع هذا{[20121]} ، ومعنى هذا : أن التَّحليل والتَّحريم إنَّما هو لله - عز وجل - وليس لأحد أن يقول أو يصرِّح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون الباري - سبحانه وتعالى - فيخبر بذلك عنه ، فأما ما يئول إليه اجتهاده ، فإنه يحرم عليه أن يقول ذلك ، بل يقول : إني أكره كما كان مالك - رضي الله عنه - يفعل .

قوله : " لِتَفْتَرُوا " في هذه اللاَّم ثلاثة أوجه :

أحدها : قال الواحدي : إنه بدلٌ من " لِما تَصِفُ " ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراءٌ [ على الله ] .

قال أبو حيَّان : " وهو على تقدير جعل " ما " مصدرية ، أما إذا كانت بمعنى الذي ، فاللاَّم فيها ليست للتَّعليل ، فيبدل منها ما يفهم التعليل ، وإنَّما اللام في " لِمَا " متعلِّقة ب " لا تَقُولوا " على حدِّ تعلقها في قولك : لا تقولوا لما أحل الله هذا حرام ، أي : لا تسمُّوا الحلال حراماً ، وكما تقول : لا تقل لزيد : عمرو أي : لا تطلق عليه هذا الاسم " .

قال شهاب الدين : وهذا وإن كان ظاهراً ، إلا أنه لا يمنع من إرادة التعليل وإن كانت بمعنى الذي .

الثاني : أنها للصَّيرورة ؛ إذ لم يفعلوه لذلك الغرض ؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم .

والمعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله - تعالى - ويقولون : إن الله أمرنا بذلك .

قال ابن الخطيب : فعلى هذا تكون لام العاقبة ؛ كقوله - تعالى - : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا } [ القصص : 8 ] .

الثالث : أنها للتعليل الصريح ، ولا يبعد أن يصدر عنهم مثل ذلك . ثم إنَّه - تعالى - أوعد المفترين فقال : { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ } ، ثم بيَّن أن ما هم فيه من [ متاع ]{[20122]} الدنيا يزول عنهم عن قربٍ ، فقال :


[20115]:ينظر: الإتحاف 2/190، المحتسب 2/12، والقرطبي 10/128، والبحر 5/526 والدر المصون 4/364.
[20116]:ينظر: المحتسب 2/12، والقرطبي 10/128، والبحر 5/27 والدر المصون 4/364.
[20117]:ينظر: البحر 5/527، والمحرر 8/536، والدر المصون 4/365.
[20118]:ينظر: السبعة 669، الدر المصون 4/365.
[20119]:ينظر: الرازي 20/106.
[20120]:أخرجه الدارمي في "سننه" (1/164) عن الأعمش.
[20121]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (10/129).
[20122]:في ب: نعيم.