مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ} (116)

قوله تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم } .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حصر المحرمات في تلك الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة ، وفي النقصان عنها أخرى ، فإنهم كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وكانوا يقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضا في المحللات وذلك لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى ، فالله تعالى بين أن المحرمات هي هذه الأربعة ، وبين أن الأشياء التي يقولون إن هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله ، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب ، وأقول : إنه تعالى لما بين هذا الحصر في هذه السور الأربع ، ثم ذكر في هذه الآية أن الزيادة عليها والنقصان عنها كذب وافتراء على الله تعالى وموجب للوعيد الشديد علمنا أنه لا مزيد على هذا الحصر ، والله أعلم .

المسألة الثانية : في انتصاب الكذب في قوله : { لما تصف ألسنتكم الكذب } وجهان . الأول : قال الكسائي والزجاج : ( ما ) مصدرية ، والتقدير : ولا تقولوا : لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال : لا تقولوا : لكذا كذا وكذا .

فإن قالوا : حمل الآية عليه يؤدي إلى التكرار ، لأن قوله تعالى : { لتفتروا على الله الكذب } عين ذلك .

والجواب : أن قوله : { لما تصف ألسنتكم الكذب } ليس فيه بيان كذب على الله تعالى فأعاد قوله : { لتفتروا على الله الكذب } ليحصل فيه هذا البيان الزائد ونظائره في القرآن كثيرة . وهو أنه تعالى يذكر كلاما ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة . الثاني : أن تكون ( ما ) موصولة ، والتقدير ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام ، وحذف لفظ فيه لكونه معلوما .

المسألة الثالثة : قوله تعال : { تصف ألسنتكم الكذب } من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة وكلامهم الكذب يكشف حقيقة الكذب ويوضح ماهيته ، وهذا مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذبا ، ونظيره قول أبي العلاء المعري :

سرى برق المعرة بعد وهن *** فبات برامة يصف الكلالا

والمعنى : أن سرى ذلك البرق يصف الكلال فكذا ههنا ، والله أعلم .

ثم قال تعالى : { لتفتروا على الله الكذب } المعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله تعالى ويقولون : إنه أمرنا بذلك . وأظن أن هذا اللام ليس لام الغرض ، لأن ذلك الافتراء ما كان غرضا لهم بل كان لام العاقبة كقوله تعالى : { ليكون لهم عدوا وحزنا } قال الواحدي : وقوله : { لتفتروا على الله الكذب } بدل من قوله : { لما تصف ألسنتكم الكذب } لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى ، ففسر وصفهم الكذب بالافتراء على الله تعالى ، ثم أوعد المفترين ، وقال : { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } .