ثم تابع القرآن حديثه عن مظاهر فضل الله عليهم ورعايته لهم فقال - تعالى - { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } .
أى وما جعل الله - تعالى - الإمداد الذى أمدكم به إلا بشارة لقلوبكم ، وتطمينا لنفوسكم فالضمير فى { جَعَلَهُ } يعود إلى الإمداد المفهوم وهو الفاعل المقدر المدلول عليه بقوله " أن يمدكم " فكأنه قيل : ألن يكفيكم إمداد الله تعالى لكم بما ذكرن وما جعل الله - تعالى - ذلك الإمداد إلى بشرى لكم ، ولتسكن قلوبكم به فلا تخافوا كثرة العدو ، بل تقدمون عليه بعزائم ثابتة ، ونفوس قوية .
وقوله { بشرى } مفعول لأجله . والاستثناء مفرغ من أعم العلل ، أى ما جعل الله إمدادكم بإنزال الملائكة لشىء من الأشياء إلا للبشارة لكم بأنكم ستنتصرون على أعدائكم .
وقوله { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } معطوف على { بشرى } باعتبار موضعه أى ما جعل إمدادكم إلا للبشرى والطمأنينة .
وإنما جر المصدر المؤول من قوله { وَلِتَطْمَئِنَّ } باللام لاختلال شرط من شروط نصبه على أنه مفعول لأجله ، وهذا الشرط هو عدم اتحاد الفاعل . فإن فاعل الجعل هو الله - تعالى - ، وفاعل الاطمئنان القلوب ، فلذلك نصب المعطوف عليه وهو { بشرى } لاستكمال شروطه . وجر المعطوف وهو { وَلِتَطْمَئِنَّ } لاختلال شرط من شروطه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم } .
أى ليس النصر إلا من الله وحده فهو العزيز الذى لا يغالب فى أمره . الحكيم الذى يفعل كل ما يريد فعله حسبتما تقتضيه إرادته .
فالجملة الكريمة المقصود منها غرس الاعتماد على الله فى قلوب المؤمنين وتفويض أمورهم إليه ، وبيان أن النصر إنما هو من الله وحده ، وليس من الملائكة أو من غيرهم ، لأن الملائكة أو غيرهم أسباب عاديةو بمعزل عن التأثير ، إلا إذا أراد الله ذلك . فهو الخالق للأسباب والمسببات .
ولقد حرص القرآن فى كثير من آياته على تثبيت هذا المعنى فى قلوب المؤمنين حتى لا يعتمدوا على الأسباب والوسائل التى بين أيديهم ، ويغتروا بها ، دون أن يلتفتوا إلى قدرة خالق الأسباب والوسائل ، فإنهم إذا اغتروا بالأسباب والوسائل ، ونسوا خالقها أتاهم الفشل من حيث لم يحتسبوا وكان أمرهم فرطاً .
والعاقل من الناس هو الذى يباشر الأسباب التى شرعها الله - تعالى - بتدبر واعتبار بحيث يوقن أن من ورائها خالقا لها ، يجب أن يستجيب له فى كل ما أمر أو نهى ، وأن يعتمد عليه فى كل شئونه وأحواله .
{ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرَىَ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
يعني تعالى ذكره : وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم إلا بشرى لكم ، يعني بشرى يبشركم بها ، { ولِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } يقول : وكي تطمئنّ بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبُكم ، فتسكن إليه ، ولا تجزع من كثرة عدد عدوّكم ، وقلة عددكم . { وَما النّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } : يعني وما ظفركم إن ظفرتم بعدوّكم إلا بعون الله ، لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة ، يقول : فعلى الله فتوكلوا ، وبه فاستعينوا ، لا بالجموع وكثرة العدد ، فإن نصركم إن كان إنما يكون بالله وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف ، فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم على عدوّكم ، وإن كان معكم من البشر جموع كثيرة أخرى ، فاتقوا الله واصبروا على جهاده عدوّكم ، فإن الله ناصركم عليهم . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وما جَعَلَهُ اللّهُ إلاّ بُشْرَى لَكُمْ } يقول : إنما جعلهم ليستبشروا بهم ، وليطمئنوا إليهم ، ولم يقاتلوا معهم يومئذٍ ، يعني يوم أُحد . قال مجاهد : ولم يقاتلوا معهم يومئذٍ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما جَعَلَهُ اللّهُ إلاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } لما أعرف من ضعفكم ، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي ، وذلك أني أعرف الحكمة التي لا إلى أحد من خلقي .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَما النّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعل العزيز الحكيم .
وأما معنى قوله : { العَزِيزِ الحَكِيم } فإنه جلّ ثناؤه يعني : العزيز في انتقامه من أهل الكفر بأيدي أوليائه من أهل طاعته ، الحكيم في تدبيره لكم أيها المؤمنون على أعدائكم من أهل الكفر ، وغير ذلك من أموره . يقول : فأبشروا أيها المؤمنون بتدبيري لكم على أعدائكم ، ونصري إياكم عليهم إن أنتم أطعتموني فيما أمرتكم به وصبرتم لجهاد عدوّي وعدوّكم .
يجوز أن تكون جملة { وما جعله الله إلا بشرى } في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله : { ولقد نصركم الله ببدر } [ البقرة : 123 ] والمعنى لقد نصركم الله ببدر حين تقول للمؤمنين مَا وعدك الله به في حال أنّ الله ما جعل ذلك الوعدَ إلاّ بشرى لكم وإلاّ فإنَّه وعَدَكم النصر كما في قوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنَّها لكم } [ الأنفال : 70 ] الآية .
ويجوز أن يكون الواو للعطف عطفَ الإخبار على التذكير والامتنان . وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار للتنويه بهذه العناية من الله بهم ، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
وضمير النصب في قوله : { جعله } عائد إلى الإمداد المستفاد مِن { يمددكم } [ آل عمران : 125 ] أو إلى الوعد المستفاد من قوله : { إن تصبروا وتتقوا } [ آل عمران : 125 ] الآية .
والاستثناء مفرّغ . و { بشرى } مفعول ثان ل ( جعله ) أي ما جعل الله الإمداد والوعد به إلاّ أنَّه بشرى ، أي جعله بشرى ، ولم يجعله غير ذلك .
و ( لكم ) متعلّق ب ( بشرى ) . وفائدة التصريح به مع ظهور أن البشرى إليهم هي الدلالة على تكرمة الله تعالى إيّاهم بأنْ بَشَّرهم بشرى لأجلهم كما في التصريح بذلك في قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ]
والبشرى اسم لمصدر بَشَّر كالرُّجعى ، والبشرى خبر بحصول ما فيه نفع ومسرّة للمخبر به ، فإنّ الله لمَّا وعدهم بالنَّصر أيقنوا به فكان في تبيين سببه وهو الإمداد بالملائكة طَمْأنة لنفوسهم لأنّ النفوس تركن إلى الصّور المألوفة .
والطمْأنة والطُّمأنِينة : السكون وعدم الاضطراب ، واستعيرت هنا ليقين النَّفس بحصول الأمر تشبيهاً للعلم الثابت بثبات النفس أي عدم اضطرابها ، وتقدّمت عند قوله تعالى : { ولكن ليطمئنّ قلبي } في سورة [ البقرة : 260 ] .
وعُطف { ولتطمئنّ } على { بُشرى } فكانَ داخلاً في حيّز الاستثناء فيكون استثناء مِن عللٍ ، أي ما جعله الله لأجل شيء إلاّ لأجل أن تطمئن قلوبكم به .
وجملة { وما النصر إلا من عند الله } تذييل أي كلّ نصر هو من الله لا من الملائكة . وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا لأنَّهما أولى بالذكر في هذا المقام ، لأنّ العزيز ينصر من يريد نصره ، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يُعطاه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.