التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا} (107)

ثم قال - تعالى { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } .

أى : ولا تخاصم وتدافع عن هؤلاء الذين { يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } أى يخونونها بشدة وإصرار إن الله - تعالى - لا يحب ولا يرضى عمن كانت الخيانة وصفا من أوصافه ، وخلقا من أخلاقه ، وكذلك لا يحب ولا يرضى عمن كان الانهماك فى الإِثم والمعصية عادة من عاداته .

وجاء - سبحانه - بلفظ { يَخْتَانُونَ } بمعنى يخونون ، لقصد وصفهم بالمبالغة فى الخيانة لأن مادة الافتعال تدل على التكلف والمحاولة .

وجعلت خيانة هؤلاء لغيرهم خيانة لأنفسهم ، لأن سوء عاقبة هذه الخيانة سيعود عليهم . ولأن المسلمين جميعا كالجسد الواحد ؛ فمن تظاهر بأنه منهم ثم خان أحدهم فكأنما خان نفسه ، وأوردها موارد البوار والتهلكة باعتدائه على حقوق الجماعة الإِسلامية ، وزعزعة أمنها واستقرارها .

والمراد بالموصول فى قوله { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } طعمة وأمثاله من الخائنين أو هو ومن عاونه وشهد ببراءته من أبناء عشيرته .

وقال - سبحانه - { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } بصيغة المبالغة ؛ لإِفادة أن الخيانة والإِثم صارا وصفا ملازما لهؤلاء الخائنين الآثمين .

أى أن صيغة المبالغة هنا ليست للتخصيص حتى لا يتوهم متوهم أن الله - تعالى - يحب من عنده أصل الخيانة والاثم .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : فإن قلت : لم قيل " خوانا أثيما " على المبالغة ؟ قلت : كان الله عالما من طعمة بالإِفراط فى الخيانة وركوب المآثم ، ومن كانت تلك خاتمة أمره لم يشك فى حاله . وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات . وعن عمر - رضى الله عنه - أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكى وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه . فقال لها كذبت . إن الله لا يؤاخذ عبده فى أول مرة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا} (107)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : { وَلا تُجادِلْ } يا محمد فتخاصم { عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } يعني : يخوّنون أنفسهم ، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله وهم بنو أبيرق ، يقول : لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم ، وما خانوه فيه من أموالهم . { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما } يقول : إن الله لا يحبّ من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم ، وركوب الإثم في ذلك وغيره ، مما حرّمه الله عليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وقد تقدّم ذكر الرواية عنهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { وَلا تُجادلْ عَن الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } قال : اختان رجل عمّا له درعا ، فقذف بها يهوديا كان يغشاهم ، فجادل عمّ الرجل قومه ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم عذره ، ثم لحق بأرض الشرك ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مَنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } . . . الاَية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا} (107)

الخطاب في قوله : { ولا تجادل } للرسول ، والمراد نهي الأمّة عن ذلك ، لأنّ مثله لا يترقّب صدوره من الرسول عليه الصلاة والسلام كما دلّ عليه قوله تعالى : { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } .

و { يختانون } بمعنى يَخونون ، وهو افتعال دالّ على التكلّف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة . ومعنى خيانتهم أنفسهم أنّهم بارتكابهم ما يضرّ بهم كانوا بمنزلة من يخون غيره كقوله : { عَلم الله أنّكم كنتم تختانون أنفسكم } [ البقرة : 187 ] . ولك أن تجعل { أنفسهم } هنا بمعنى بني أنفسهم ، أي بني قومهم ، كقوله { تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } [ البقرة : 85 ] ، وقولِه { فسلّموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] ، أي الذين يختانون ناساً من أهلهم وقومهم . والعرب تقول : هو تميمي من أنفسهم ، أي ليس بمولى ولا لصيق .

والمجادلة مفاعلة من الجدل ، وهو القدرة على الخصام والحجّة فيه ، وهي منازعة بالقول لإقناع الغير برأيك ، ومنه سمّي علم قواعد المناظرة والاحتجاج في الفقه عِلْمَ الجدل ، ( وكان يختلط بعلم أصول الفقه وعلم آداب البحث وعلم المنطق ) . ولم يسمع للجدل فعل مجرّد أصلي ، والمسموع منه جَادل لأنّ الخصام يستدعي خصمين . وأمّا قولهم : جَدَله فهو بمعنى غلبه في المجادلة ، فليس فعلا أصلياً في الاشتقاق . ومصدر المجادلة ، الجدال ، قال تعالى : { ولا جدال في الحجّ } [ البقرة : 197 ] . وأمّا الجَدَل بفتحتين فهو اسم المصدر ، وأصله مشتقّ من الجَدْل ، وهو الصرع على الأرض ، لأنّ الأرض تسمّى الجَدَالة بفتح الجيم يقال : جَدَله فهو مجدول .