التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (31)

ثم حكى القرآن بعد ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التي تفوه بها المشركون فقال - تعالى - { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } .

وقد ذكر كثير من المفسرين " أن القائل لهذا القول : النضر بن الحارث ؛ فإنه كان قد ذهب إلا بلاد فارس فأحضر منها قصصاً عن ملوكهم . . ولما قدم مكة ووجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن قال للمشركين : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان - صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلس ، جاء بعده النضر فجلس فيه وحدث المشركين بأخبار ملوك الفرس والروم ، وغيرهم ثم قال : أينا أحس قصصا ؟ أنا أو محمد ؟ وقد أمكن الله منه يوم بدر ، فقد أسره المقداد بن عمرو ، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه وقال فيه : " إنه كان يقول في كتاب الله - عز وجل - ما يقول " " .

وأسند - سبحانه - قول النضر إلى جميع المشركين ، لأنهم كانوا راضين بقوله ، ولأنه كان من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية .

والأساطير - كما يقول ابن جرير - : جمع أسطر ، لأن واحد الأسطر سطر . ثم يجمع السطر : أسطر وسطور ، ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر . وقد كان بعض أهل العربية يقول : واحد الأساطير : أسطورة - كأحاديث وأحدوثة .

والمراد بها : تلك القصص والحكايات التي كتبها الكاتبون عن القدامى ، والتى يغلب عليها طابع الخرافة والتخيلات التي لا حقيقة لها .

والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم الكذب والتمادى في الطغيان ، أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله { قَالُواْ } بصفاته ووقاحة : { قَدْ سَمِعْنَا } أى : قد معنا ما قرأته علينا - يا محمد - ووعيناه { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } أي لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد وما هو إلا من قصص الأولين وحكاياتهم التي سطرها بعضهم عنهم وليس من عند الله - تعالى - .

ولا شك أن قولهم هذا يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم وعلى الناس فإن هذا القرآن - الذي زعموا أنهم لو شاءوا لقالوا مثله - قد تحداهم في نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وانقلبوا خاسرين .

والذى نعتقده أن قولهم هذا ، ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التي كاوا يشنونها على الدعوة الإِسلامية ، بقصد تضليل البسطاء ، والوقوف في وجه تأثير القرآن في القلوب ، ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين .

ولكنهم لم يفلحوا . فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة ، ولا يعدم الحق أن يجد له أنصاراً حتى من أعدائه ، يكفى هنا أن نستشهد بما قاله الوليد بن المغيرة في وصف القرآن الكريم : " إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن اسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر . . وما يقول هذا بشر " .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا . . . } : نفاجة منهم وصلت تحت الراعدة ، فإنهم لم تيوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة ، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هََذَا إِنْ هََذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة لمن شرح الله صدره لفهمه قالوا جهلاً منهم وعنادا للحقّ وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم : لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا الذي تلي علينا ، إنْ هَذَا إلاّ أساطيرُ الأوّلِين : يعني أنهم يقولون ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم إلاّ أساطير الأوّلين . والأساطير : جمع أسطر ، وهو جمع الجمع ، لأن واحد الأسطر : سطر ، ثم يجمع السطر : أسطر وسطور ، ثم يجمع الأسطر : أساطير وأساطر . وقد كان بعض أهل العربية يقول : واحد الأساطير : أسطورة .

وإنما عَنى المشركون بقولهم : إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأَوّلِينَ : إن هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد إلاّ ما سطر الأوّلون وكتبوه من أخبار الأمم . كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم ، وأنه لم يوحه الله إليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذَا قال : كان النضر بن الحرث يختلف تاجرا إلى فارس ، فيمرّ بالعباد وهم يقرءون الإنجيل ، ويركعون ويسجدون . فجاء مكة ، فوجد محمدا صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد ، فقال النضر : قد سمعنا ، لو نشاء لقلنا مثل هذا للذي سمع من العِباد . فنزلت : وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْل هذَا قال : فقصّ ربنا ما كانوا قالوا بمكة ، وقصّ قولهم : إذْ قالُوا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ . . . الاَية .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان النضر بن الحرث بن علقمة أخو بني عبد الدار يختلف إلى الحيرة ، فيسمع سجع أهلها وكلامهم . فلما قدم مكة ، سمع كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن ، فقال : قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ : يقول : أساجيع أهل الحيرة .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا : عقبةَ بن أبي معيط ، وطعيمة بن عديّ ، والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر ، فلما أمر بقتله قال المقداد : يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّهُ كانَ يَقُولُ فِي كِتابِ اللّهِ ما يَقُولُ » . فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله . فقال المقداد : أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ أغْنِ المِقْدَاد مِنْ فَضْلِكَ » فقال المقداد : هذا الذي أردت . وفيه نزلت هذه الاَية : وَإذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا . . . الاَية .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة رهط من قريش صبرا المطعم بن عديّ ، والنضر بن الحرث ، وعقبة بن أبي معيط . قال : فلما أمر بقتل النضر ، قال المقداد بن الأسود : أسيري يا رسول الله قال : «إنّهُ كانَ يَقُولُ فِي كِتابِ الله وفِي رَسُولِهِ ما كانَ يَقُولُ » . قال : فقال ذلك مرّتين أو ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ أغْنِ المِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ » وكان المقداد أسر النضر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (31)

الضمير في { عليهم } عائد على الكفار ، و «الآيات » هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله { تتلى } ، و { قد سمعنا } يريد وقد سمعنا هذا المتلو { لو نشاء لقلنا } مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم ، أي قصصهم المكتوبة المسطورة ، و { أساطير } جمع اسطورة ، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري ، لأنه كان يجيء أساطر بدون ياء{[5305]} ، هذا هو قانون الباب ، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صيارف ، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث ، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة ، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل ، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار ، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت فيه آيات من كتاب الله ، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً{[5306]} بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل{[5307]} وكان أسره المقداد{[5308]} ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه قال المقداد : أسيري يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم ، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم أغن المقداد من فضلك » فقال المقداد : هذا الذي أردت ، فضرب عنق النضر ، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر صبراً ثلاثة نفر ، المطعم بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .

قال القاضي أبو محمد : وهذا وهم عظيم في خبر المطعم ، فقد كان مات قبل يوم بدر{[5309]} ، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو كان المطعم حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له »{[5310]} يعني أسرى بدر .


[5305]:- الذي في لسان العرب هو أن السطر والسطر: الصف من الكتاب والشّجر والنخل ونحوها، والجمع من كل ذلك: أسطر وأسطار وأساطير، وعن اللحياني: وسطور ثم روى عن اللغويين- بعد ذلك آراء مختلفة.
[5306]:- الصبر: نصب الإنسان للقتل، فهو مصبور، وصبر الإنسان على القتل: نصبه عليه، يقال: قتله صبرا، وقد صبره عليه. (اللسان)- وفي "المعجم الوسيط": قتله صبرا: حبسه حتى مات.
[5307]:- الأثيل بالتصغير: موضع قريب من المدينة فيه عين ماء لآل جعفر بن أبي طالب.
[5308]:- هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة الحضرمي، قدم مكة من اليمن فحالف الأسود بن عبد يغوث فقيل له: المقداد بن الأسود، كان طويلا آدم كثيف الشعر واسع العينين، تزوج ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، ولم يثبت أنه كان على فرس يوم بدر غيره، أخرج الترمذي وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: عليّ، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان). وروى المقداد أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. واتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه، قيل: وهو ابن سبعين سنة. (الإصابة)
[5309]:- الحقيقة التي لا شك فيها أن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر، وقد ذكره ذلك ابن كثير في تفسيره لهذه الآية- قال عن هذا الخبر: "وكذا رواه هشيم عن أبي بشر جعفر ابن أبي رحية عن سعيد بن جبير أنه قال (المطعم بن عدي) بدل (طعيمة بن عدي)، وهو غلط لأن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر." وسر الغلط هو التشابه بين الاسمين، ويؤيد هذا أن السيوطي حين نقل الحديث في (الدر المنثور) لم يذكر فيه المطعم بن عدي، بل ذكر اثنين فقط هما عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث.
[5310]:- رواه البخاري في كتاب المغازي، ورواه الدارمي في الجهاد، ورواه الإمام أحمد في مسنده (4/80)، ولكن فيه لفظ "النتنين" بدلا من "النّتْنى".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدۡ سَمِعۡنَا لَوۡ نَشَآءُ لَقُلۡنَا مِثۡلَ هَٰذَآ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (31)

انتقال إلى ذكر بهتان آخر من حجاج هؤلاء المشركين ، لم تزل آيات هذه السورة يتخللها أخبار كفرهم من قوله : { ويقطع دابر الكافرين } [ الأنفال : 7 ] وقوله { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } [ الأنفال : 13 ] وقوله { فلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم } [ الأنفال : 17 ] وقوله { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } [ الأنفال : 21 ] ثم بقوله { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [ الأنفال : 30 ] .

وهذه الجمل عطف على جملة : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } [ الأنفال : 23 ] .

وهذا القول مقالة المتصدين للطعن على الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاجته ، والتشغيب عليه : منهم النضر بن الحارث ، وطُعمية بن عدي ، وعقبة بن أبي مُعَيْط .

ومعنى { قد سمعنا } : قد فهمنا ما تحتوي عليه ، لو نشاء لقلنا مثلها وإنما اهتموا بالقصص ولم يتَبيّنوا مغزاها ولا ما في القرآن من الآداب والحقائق ، فلذلك قال الله تعالى عنهم { كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } [ الأنفال : 21 ] أي لا يفقهون ما سمعوا .

ومن عجيب بهتانهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدّاهم بمعارضة سورة من القرآن ، فعجزوا عن ذلك وأفحموا ، ثم اعتذروا بأن ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك قيل : قائِل ذلك هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، كان رجلاً من مردة قريش ومن المستهزئين ، وكان كثيرَ الأسفار إلى الحِيره وإلى أطراف بلاد العجم في تجارته ، فكان يلقى بالحِيرة ناساً من العِبَاد ( بتخفيف الباء اسم طائفة من النصارى ) فيحدثونه من أخبار الإنجيل ويلقَى من العرب من ينقل أسطورة حروب ( رُسْتُم ) و ( أسْفندياذ ) {[244]} من مُلوك الفرس في قصصهم الخُرافي ، وإنما كانت تلك الأخبار تترجم للعرب باللسان ويستظهرها قصاصهم وأصحاب النوادر منهم ولم يذكر أحد أن تلك الأخبار كانت مكتوبة بالعربية ، فيما أحسب ، إلاّ ما وقع في « الكشاف » أن النضر بن الحارث جاء بنسخة من خبر ( رُستم ) و ( اسفندياذَ ) ولا يبعد أن يكون بعض تلك الأخبار مكتوباً بالعربية كتبها القصاصون من أهل الحِيرة والأنبار تذكرة لأنفسهم ، وإنما هي أخبار لا حكمة فيها ولا موعظة ، وقد أطال فيها الفردوسي في كتاب « الشاهنامه » تطويلاً مُملاً على عادة أهل القصص ، وقال الفخر : اشترى النضر من الحِيرة أحاديث كليلة ودمنة ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين ، فإسناد قول النضر بن الحارث إلى جماعة المشركين : من حيث إنهم كانوا يؤيدونه ويَحكونه ويُحاكونه ، ويحسبون فيه معذرة لهم عن العجز الذي تلبسوا به في معارضة القرآن ، وأنه نفّس عليهم بهذه الأغلوطة ، فإذا كان الذي ابتكره هو النضر بن الحارث فليس يمتنع أن تصدر أمثال هذا القول من أمثاله وأتباعه ، فمن ضمنهم مجلسه الذي جاء فيه بهذه النزاقة .

وقولهم : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } إيهام بأنهم ترفعوا عن معارضته ، وأنهم لو شاءوا لنقلوا من أساطير الأولين إلى العربية ما يوازي قصص القرآن وهذه وقاحة ، وإلاّ فما منعهم أن يشاءوا معارضة من تحداهم وقرعهم بالعجز بقوله : { فإنْ لم تفعلوا ولنْ تفعلوا } [ البقرة : 24 ] مع تحيزهم وتآمرهم في إيجاد معذرة يعتذرون بها عن القرآن وإعجازه إياهم وتحديه لهم ، وما قاله الوليد بن المغيرة في أمر القرآن .

و« الأساطير » جمع أسطورة بضم الهمزة وهي القصة ، وتقدم عند قوله تعالى : { حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين } في سورة [ الأنعام : 25 ] .

والمخالفة بين شرط { لو } وجوابها إذ جعل شرطها مضارعاً والجزاء ماضياً جرى على الاستعمال في ( لو ) غالباً ، لأنها موضوعة للماضي فلزم أن يكون أحد جزَأيْ جملتها ماضياً ، أو كلاهما . فإذا أريد التفنن خولف بينهما ، فالتقدير : لو شئنا لقلنا ، ولا يبعد عندي في مثل هذا التركيب أن يكون احتباكاً قائماً مقام شرطين وجزاءين فإحدى الجملتين مستقبلة والأخرى ماضية ، فالتقدير لو نشاء أن نقول نقولُ ، ولو شئنا القول في الماضي لقلنا فيه ، فذلك أوعب للأزمان ، ويكون هذا هو الفرق بين قوله : { ولَوْ شئنا لآتينا كل نفسسٍ هداها } [ السجدة : 13 ] وقوله : { أنْ لَو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } [ الرعد : 31 ] فهم لما قالوا : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } ادعوا القدرة على قول مثله في الماضي وفي المستقبل إغراقاً في النفَاجة والوقاحة .


[244]:- سفندياز بهمزة قطع مكسورة، فسين مهملة ساكنة، ففاء أخت القاف وقد يكتب بباء موحدة عوض الفاء لأن الباء الفارسية منطقها بين الباء والفاء العربية فكثيرا ما تعرب بالفاء وبالباء وهي مفتوحة وبعضهم يضبطها بالكسر، ثم دال مهملة مكسورة فتحتية، وآخره معجمة كذا نطق به العرب وكذلك كتب في تفسير ابن عطية وهو في العجمية براء في آخره قاله التفتزاني في شرح الكشاف. قلت وهو في الكشاف وفي سيرة ابن هشام بالراء وهو اسفنديار بن ( كشتاسب) من العائلة الكيانيين من ملوك الفرس لأن أسماء ملوكها مفتتحة بكلمة ( كي) أولهم ( كيقباذ) وفي زمن ( كشتاسب) ظهر ( زرادشت) صاحب الديانة الشهيرة في الفرس قبل الإسلام، وأخبار حروب اسفنديار مع رستم وكلهم من ملوك الطوائف بفارس وكان رستم ملك بلاد الترك.