ثم فسر - سبحانه - عصيانهم وعدوانهم بقوله : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } .
وقوله { يَتَنَاهَوْنَ } من التناهي .
قال الفخر الرازي : وللتناهي ههنا معنيان :
أحدهما : وهو الذي عليه الجمهور - أنه تفاعل من النهي . أي : كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً .
روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من رضى عمل قوم فهو منهم . ومن كثر سواد قوم فهو منهم " .
والمعنى الثاني : في التناهي أنه بمعنى الانتهاء عن الأمر ، تناهى عنه إذا كف عنه " .
والمنكر : هو كل ما تنكره الشرائع والعقول من الأقوال والأفعال .
أي أن مظاهر عصيان الكافرين من بني إسرائيل وتعديهم مما أدى إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله أنهم كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن اقتراف المنكرات . واجتراح السيئات ، بل كانوا يرون المنكرات ترتكب فيسكتون عليها بدون استنكار مع قدرتهم على منعها قبل وقوعها .
وهذا شر ما تصاب به الأمم حاضرها ومستقبلها : أن تفشو فيها المنكرات والسيئات والرذائل فلا تجد من يستطيع تغييرها وإزالتها .
وقوله : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ذم لهم على كثرة ولو غهم في المعاصي والمنكرات وتعجب من سوء فعلهم .
واللام في قوله { لَبِئْسَ } لام القسم فكأنه - سبحانه - قال : أقسم لبئس ما كانوا يفعلون وهو ارتكاب المعاصي والعدوان وترك الأمر بالمعورف والنهي عن المنكر .
قال صاحب الكشاف : قوله : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } للتعجيب من سوء فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم . فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير ، وقلة عبئهم به ، كأنه ليس من ملة الإِسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب .
فإن قلت ما معى وصف المنكر بفعلوه ، ولا يكون النهي بعد الفعل ؟ قلت : معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فتنكر .
هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهما قوام الأمم وسياج الدين ولا صلاح لأمة من الأمم إلا بالقيام بحقهما .
ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإِيمان " .
وروى الإمام أحمد في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم أو في أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " .
قال ابن مسعود : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً - أي تحملوهم على التزام الحق وتعطوفهم عليه " .
وروى الترمذي عن حذيفة بن اليمان : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم " .
وروى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله - لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه . فإذا فعلوا ذلك لعن الله العامة والخاصة " .
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال يا رسول الله ، متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال : " إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم قلنا : يا رسول الله ، وما الذي ظهر في الأمم قبلنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : الملك في صغاركم ، والفاحشة في كباركم ، والعلم في رذالتكم " أي في فساقكم .
هذا جانب من الأحاديث التي وردت في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فعلى الأمة الإِسلامية أن تقوم بحقها حتى تكون مستحقة لمدح الله - تعالى - لها بقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله }
{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله لا يَتَنَاهَوْنَ يقول : لا ينتهون عن منكر فعلوه ، ولا ينهى بعضهم بعضا . ويعني بالمنكر : المعاصي التي كانوا يعصون الله بها . فتأويل الكلام : كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه ، لبْئْسَ ما كَانُوا يَفْعَلُونَ وهذا قسم من الله تعالى ذكره ، يقول : أقسم لبِئس الفعل كانوا يفعلون في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى وركوب محارمه وقتل أنبياء الله ورسله كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : كانُوا لا يَتَناهْوَنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في في الكفر .
ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد ، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته ، وروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيراً ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله ، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ، قال ابن مسعود : وكان رسول الله متكئاً فجلس ، وقال : لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً »{[4649]} .
قال القاضي أبو محمد : والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وَأِمن الضرر عليه وعلى المسلمين ، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر ، وقال حذاق أهل العلم : ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية ، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً ، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً . واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية ، لأن قوله { يتناهون } و { فعلوه } يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي . وقوله تعالى { لبئس ما كانوا يفعلون } اللام لام قسم ، جعل الزجاج { ما } مصدرية وقال : التقدير لبئس شيئاً فعلهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وقال غيره { ما } نكرة موصوفة ، التقدير : لبئس الشيء{[4650]} الذي كانوا يفعلون فعلاً .
وجملة { كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه } مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ينشأ عن قوله : { ذلك بما عَصوا } ، وهو أن يقال كيفَ تكون أمّة كلّها مُتمالئة على العصيان والاعتداء ، فقال : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } . وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أنّ النّفَر القليل ، فإذا لم يجدوا من يغيِّر عليهم تزايدوا فيها ففشت واتّبَع فيها الدّهماءُ بعضهم بعضاً حتّى تعمّ ويُنسى كونها مناكرَ فلا يَهتدي النّاس إلى الإقلاع عنها والتّوبةِ منها فتصيبهم لعنة الله . وقد روى التّرمذي وأبو داوود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كانَ الرجل من بني إسرائيل يلقَى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول : يا هذا اتّقِ الله ودَع ما تصنع ، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وخليطَه وشريكَه ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داوود وعيسى ابن مريم ، ثُمّ قرأ : { لُعن الّذين كفروا من بني إسرائيل إلى قوله : فَاسقون } [ المائدة : 78 81 ] ثُمّ قال : والّذي نفسي بيده لتأمُرُنّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنّ عن المنكر ولتأخُذُنّ على يد الظّالم ولتأطُرُنَّهُ على الحقّ أطْرا أوْ لَيضربَنّ الله قلوبَ بعضكم على بعض أو ليلعنُكم كما لَعنهم » .
وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضاً باعتبار مجموع الأمّة وأنّ نَاهيَ فاعل المنكر منهم هو بصدد أن يَنهاه المنهيّ عندما يرتكب هو مُنكراً فيحصل بذلك التّناهي . فالمفاعلة مقدّرة وليست حقيقيَّة ، والقرينة عموم الضّمير في قوله { فَعلوه } ، فإنّ المنكر إنّما يفعله بعضهم ويسكُت عليه البعض الآخر ؛ وربّما فعل البعضُ الآخر منكراً آخرَ وسَكت عليه البعض الّذي كان فعَل منكراً قبله وهكذا ، فهم يصانعون أنفسهم .
والمراد ب { ما كانوا يفعلون } تَرْكُهم التناهيَ .
وأطلق على ترك التناهي لفظ الفِعل في قوله { لبئس ما كانوا يفعلون } مع أنّه ترك ، لأنّ السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرّضا به والمشاركة فيه .
وفي هذا دليل للقائلين من أيمّة الكلام من الأشاعرة بأنّه لا تكليف إلاّ بفعل ، وأنّ المكلّف به في النّهي فِعْل ، وهو الانتهاء ، أي الكفّ ، والكفّ فعل ، وقد سمّى الله الترك هنا فِعلاً . وقد أكّد فعل الذّم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمّة .