ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما سيحل بالمجرمين يوم القيامة من عذاب عنيف مهين يناسب إجرامهم وكفرهم فقال : { وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد . سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وتغشى وُجُوهَهُمْ النار }
وقوله { مقرنين } جمع مقرن ، وهو من جمع فى قرن ووثاق واحد يربطان به .
والأصفاد : جمع صفد - بفتح الفاء - وهو القيد الذى يوضع فى الرجل ، أو الغل - بضم الغين - الذى تضم به اليد والرجل إلى العنق .
والسرابيل : جمع سربال وهو القميص .
والقطران : مادة حارة نتنة شديدة الاشتعال تصلى بها جولد الإِبل الجربى ، ليزول الجرب منها . أى : وترى - أيها العاقل - المجرمين فى هذا اليوم العسير عليهم { مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } أى : قد قرن بعضهم مع بعض ، وضم كل قرين إلى من يشبهه فى الكفر وفى الفسوق وفى العصيان ، وقد قيدوا جميعا بالأصفاد واليقود والأغلال .
قال - تعالى - { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ . . } أى : وأمثالهم من العصاة ، فعابد الصنم يكون مع عابد الصنم ، وشارب الخمر مع شارب الخمر . ويصح أن يكون اقترانهم مع الشياطين كما قال - تعالى - { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } هذا عن مشهد المجرمين وهم مقرنون فى الأصفاد ، وهو مشهد مهين مذل ولكنه ليس كافيا .
فى عقابهم ، بل يضاف إليه أن ملابسهم من قطران ، ليجتمع لهم لذعته ، وقبح لونه ، ونتن ريحه ، وسرعة اشتعاله ، وفوق كل ذلك فإن وجوههم تعلوها وتحيط بها النار التى تستعر بأجسادهم المسربلة بالقطران .
وخص - سبحانه الوجوه بغشيان النار لهاه ، لكونها أعز موضع فى البدن وأشرفه
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مّقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىَ وُجُوهَهُمْ النّارُ * لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
يقول تعالى ذكره : وتعاين الذين كفروا بالله ، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذٍ ، يعني : يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسموات . مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ يقول : مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غلّ وسلسلة ، واحدها : صَفَد ، يقال منه : صفدته في الصّفَد صَفْدا وصِفادا ، والصفاد : القيد ، ومنه قول عمرو بن كلثوم .
فَآبُوا بالنّهابِ وبالسّبايا *** وأُبْنا بالمُلُوكِ مُصَفّدِينا
ومن جعل الواحد من ذلك صِفادا جمعه : صُفُدا لا أصفادا . وأما من العطاء ، فإنه يقال منه : أصفدتُهُ إصفادا ، كما قال الأعشى :
تَضَيّفْتُهُ يَوْما فأكْرَمَ مَجْلِسِي *** وأصْفَدَنِي عِنْدَ الزّمانَةِ قائِدَا
وقد قيل في العطاء أيضا : صَفَدَني صَفْدا ، كما قال النابغة الذبيانيّ :
هَذَا الثّناءُ فإنْ تَسْمَعْ لِقائِلِهِ *** فَمَا عَرَضْتُ أبَيْتَ اللّعْنَ بالصّفَدِ
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ يقول : في وثاق .
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الأصفاد : السلاسل .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ قال : مقرّنين في القيود والأغلال .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عليّ بن هاشم بن البريد ، قال : سمعت الأعمش ، يقول : الصفد : القيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مُقَرّنِينَ فِي الأصْفادِ قال : صفدت فيها أيديهم وأرجلهم ورقابهم ، والأصفاد : الأغلال .
{ وترى المجرمين يومئذ مقرّنين } قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال كقوله : { وإذا النفوس زوجت } أو قرنوا مع الشياطين أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة والملكات الباطلة ، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال ، وهو يحتمل أن يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم . { في الأصفاد } متعلق ب { مقرنين } أو حال من ضميره ، والصفد القيد . وقيل الغل قال سلامة بن جندل :
{ المجرمين } هم الكفار ، و { مقرنين } مربوطين في قرن ، وهو الحبل الذي تشد به رؤوس الإبل والبقر ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] .
وابن اللبون إذا ما لز في قرن . . . لم يستطع صولة البزل القناعيس{[7113]}
و { الأصفاد } الأغلال ، واحدها : صفد ، يقال : صفده وأصفده وصفده : إذا غلله ، والاسم : الصفاد ، ومنه قول سلامة بن جندل : [ الوافر ]
وزيد الخيل قد لاقى صفاداً . . . يعض بساعد وبعظم ساق{[7114]}
وكذلك يقال في العطاء ، و «الصفد » العطاء ، ومنه قول النابغة .
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد . . . {[7115]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.