وقوله - سبحانه - : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } . بيان للحكم التى من أجلها أنزل الله - تعالى - القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم .
أى : وأنزلنا إليك - أيها الرسول الكريم - القرآن ، لتعرف الناس بحقائق وأسرار ما أنزل لهدايتهم فى هذا القرآن من تشريعات وآداب وأحكام ومواعظ ولعلهم بهذا التعريف والتبيين يتفكرون فيما أرشدتهم إليه ، ويعملون بهديك ويقتدون بك فى أقوالك وأفعالك ، وبذلك يفوزون ويسعدون .
فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على حكمتين من الحكم التى أنزل الله - تعالى - من أجلها القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم .
أما الحكمة الأولى : فهى تفسير ما اشتمل عليه هذا القرآن من آيات خفى معناها على أتباعه ، بأن يوضح لهم صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن الكريم من أحكام أو يؤكد لهم صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام .
ففى الحديث الشريف عن المقدام بن معد يكرب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ألا وإنى أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه . . . " .
وأما الحكمة الثانية : فهى التفكر فى آيات هذا القرآن ، والاتعاظ بها ، والعمل بمقتضاها ، قال - تعالى - :
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
والمراد بالناس فى قوله - تعالى - { لتبين للناس } العموم ، ويدخل فيهم المعاصرون لنزول القرآن الكريم دخولا أوليا .
وأسند - سبحانه - التبيين إلى النبى صلى الله عليه وسلم لأنه هو المبلغ عن الله - تعالى - ما أمره بتبليغه .
قال الجمل : " قوله - تعالى - { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ . . } .
يعنى : أنزلنا إليك - يا محمد - الذكر الذى هو القرآن ، وإنما سماه ذكرا ، لأن فيه مواعظ وتنبيها للغافلين ، { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } يعنى ما أجمل إليك من أحكام القرآن ، وبيان الكتاب يطلب من السنة ، والمبين لذلك المجمل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال بعضهم : متى وقع تعارض بين القرآن والحديث ، وجب تقديم الحديث ، لأن القرآن مجمل والحديث مبين ، بدلالة هذه الآية ، والمبين مقدم على المجمل " .
وبعد أن ردت السورة الكريمة على ما أثاره المشركون من شبهات حول الدعوة الإِسلامية ، أتبعت ذلك بتهديدهم من سوء عاقبة ما هم فيه من كفر وعصيان وعناد ، فقال - تعالى - : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ . . . } .
القول في تأويل قوله تعالى { بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أرسلنا بالبينات والزّبُر رجالاً نوحي إليهم .
فإن قال قائل : وكيف قيل بالبينات والزّبُر ؟ وما الجالب لهذه الباء في قوله بالبَيّناتِ فإن قلت : جالبها قوله أرْسَلْنَا وَهي من صلته ، فهل يجوز أن تكون صلة «ما » قبل «إلاّ » بَعدها ؟ وإن قلت : جالبها غير ذلك ، فما هو ؟ وأين الفعل الذي جلبها ؟ قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعضهم : الباء التي في قوله : «بالبَيّناتِ » من صلة «أرسلنا » ، وقال : «إلاّ » في هذا الموضع ، ومع الجحد والاستفهام في كلّ موضع بمعنى «غير » . وقال : معنى الكلام : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم ، ويقول على ذلك : ما ضرب إلاّ أخوك زيدا ، وهل كلم إلاّ أخوك عمرا ، بمعنى : ما ضرب زيدا غير أخيك ، وهل كلم عمرا إلاّ أخوك ؟ ويحتجّ في ذلك بقول أوْس بن حَجَر :
أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيَدٍ *** إلا يَدٍ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ويقول : لو كانت «إلا » بغير معنى لفسد الكلام ، لأن الذي خفض الباء قبل «إلا » لا يقدر على إعادته بعد «إلا » لخفض اليد الثانية ، ولكن معنى «إلا » معنى «غير » . ويستشهد أيضا بقول الله عزّ وجلّ : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللّهُ ويقول : «إلا » بمعنى «غير » في هذا الموضع . وكان غيره يقول : إنما هذا على كلامين ، يريد : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً أرسلنا بالبينات والزبر . قال : وكذلك قول القائل : ما ضرب إلا أخوك زيدا معناه : ما ضرب إلا أخوك ، ثم يبتدىء ضرب زيدا ، وكذلك ما مَرّ إلا أخوك بزيد ما مرّ إلا أخوك ، ثم يقول : مرّ بزيد ويستشهد على ذلك ببيت الأعشى :
ولَيْسَ مُجِيرا إنْ أتَى الحَيّ خائِفٌ *** وَلا قائِلاً إلاّ هُوَ المُتَعَيّبا
ويقول : لو كان ذلك على كلمة لكان خطأ ، لأن «المُتَعَيّبا » من صلة القائل ، ولكن جاز ذلك على كلامين . وكذلك قول الاَخر :
نُبّئْتُهُمْ عَذّبُوا بالنّارِ جارَهُمُ *** وَهَلْ يُعَذّبُ إلاّ اللّهُ بالنّارِ
فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر ، وأنزلنا إليك الذكر . والبينات : هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوّتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله . والزّبُر : هي الكتب ، وهي جمع زَبُور ، من زَبَرْت الكتاب وذَبَرته : إذا كتبته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : بالبَيّناتِ والزّبُرِ قال : الزبر : الكتب .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بالبَيّناتِ والزّبُرِ قال : الاَيات . والزبر : الكتب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الزّبُر : الكُتُب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالزّبُرِ يعني : بالكتب .
وقوله : وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذّكْرَ يقول : وأنزلنا إليك يا محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم . لِتُبَيّنَ للنّاسِ يقول : لتعرفهم ما أنزل إليهم من ذلك . وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ يقول : وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنزلنا إليك . وقد :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا الثوري ، قال : قال مجاهد : وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ قال : يطيعون .
{ بالبينات والزُّبر } أي أرسلناهم بالبينات والزبر أي المعجزات والكتب ، كأنه جواب : قائل قال : بم أرسلوا ؟ ويجوز أن يتعلق بما أرسلنا داخلا في الاستثناء مع رجالا أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات كقولك : ما ضربت إلا زيدا بالسوط ، أو صفة لهم أي رجالا ملتبسين بالبينات ، أو بيوحي على المفعولية أو الحال من القائم مقام فاعله على أن قوله فاسألوا اعتراض ، أو بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت والإلزام . { وأنزلنا إليك الذكر } أي القرآن وإنما سمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه . { لتبين للناس ما نُزّل إليهم } في الذكر بتوسط إنزاله إليك مما أمروا به ونهوا عنه ، أو مما تشابه عليهم والتبيين أعم من أن ينص بالمقصود ، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس ودليل العقل . { ولعلهم يتفكّرون } وإرادة أن يتأملوا فيه فينتبهوا للحقائق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.