ثم تحدثت السورة الكريمة عن دلائل الإِيمان فى الأنفس والآفاق ، وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس ، وفيما يتعلق بحياتهم ومعاشهم ، وفيما يتعلق بمظاهر لطفه بهم ، وفضله عليهم ، فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة . . . وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
قال الجمل فى حاشيته : قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } قال ابن عباس : يريد أولياءه وأهل طاعته . والتوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كان معصية بين العبد وربه فلها ثلاثة شروط ، الإِقلاع عن المعصية ، والندم على فعلها ، والعزم على عدم العودة إليها .
وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمى ، أضيف إلى ذلك : أن يبرأ من حق صاحبها . .
والمعنى : وهو - سبحانه - وحده الذى يقبل التوبة من عباده التائبين إليه ، شفقة عليهم ، ورحمة بهم ، بأن يكفر سيئاتهم ، ولا يعاقبهم عليها .
والقبول يعدى بعن ، لتضمنه معنى الإِبانة والقطع ، ويعدى بمن لتضمنه معنى الآخذ كما فى قوله - تعالى - : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ } وعدى بعن هنا للإِشارة إلى تجاوزه سبحانه عن خطايا عباده .
وقوله - تعالى - { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } تأكيد لما قبله وتقرير له أى : أنه عز وجل يقبل التوبة من عباده التائبين ، وفضلا عن ذلك ، يعفو عن سيئاتهم ، ويسترها عليهم ، بل ويحولها - بفضله إلى حسنات ، كما قال - تعالى - { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } وقوله - سبحانه - { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } تحذير من التمادى فى تأخير التوبة ، وفى اقتراف ما نهى عنه ، فكأنه - تعالى - يقول : لقد فتحت لكم باب التوبة والعفو ، فأقبلوا على طاعتى ، واتركوا معصيتى ، فإنى عليم بما تفعلونه من خير أو شر ، وسأجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب .
و { مَا } فى قوله { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } موصولة ، والعائد محذوف . أى : ويعلم الذى تفعلونه دون أن يخفى عليه - تعالى - شئ منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السّيّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي يقبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد الله وطاعته من بعد كفره وَيَعْفُوا عَنِ السّيّئاتِ يقول : ويعفو أن يعاقبه على سيئاته من الأعمال ، وهي معاصيه التي تاب منها وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة «يَفْعَلُونَ » بالياء ، بمعنى : ويعلم ما يفعل عباده ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة تَفْعَلُونَ بالتاء على وجه الخطاب .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أن الياء أعجب إليّ ، لأن الكلام من قبل ذلك جرى على الخبر ، وذلك قوله : وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويعني جلّ ثناؤه بقوله : وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ويعلم ربكم أيها الناس ما تفعلون من خير وشرّ ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وهو مجازيكم على كل ذلك جزاءه ، فاتقوا الله في أنفسكم ، واحذروا أن تركبوا ما تستحقون به منه العقوبة .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم النخعي ، عن همام بن الحارث ، قال : أتينا عبد الله نسأله عن هذه الاَية : وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السّيّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ قال : فوجدنا عنده أناسا أو رجالاً يسألونه عن رجل أصاب من امرأة حراما ، ثم تزوّجها ، فتلا هذه الاَية وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وَيَعْفُو عَنِ السّيّئاتِ ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ .
{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } بالتجاوز عما تابوا عنه ، والقبول يعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإبانة ، وقد عرفت حقيقة التوبة . وعن علي رضي الله تعالى عنه : هي اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته . { ويعفوا عن السيئات } صغيرها وكبيرها لمن يشاء . { ويعلم ما يفعلون } فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة ، وقرأ الكوفيون غير أبي بكر " ما تفعلون " بالتاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.