وقوله - سبحانه { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } انتقال من بيان كون القرآن من عند الله ، إلى بيان مزاعمهم فيه .
وأم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة للاستفهام ، أى : بل أيقولون إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أتى بهذا القرآن من عند نفسه لا من عند الله .
وقوله { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله } أمر من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم .
أى : قل لهم : يا محمد على سبيل التبكيت والتحدي : إن كان الأمر كما زعمتم من أنى أنا الذي اختلقت هذا القرآن ، فأتوا أنتم يا فصحاء العرب بسورة مثل سورة في البلاغة والهداية وقوة التأثير ، وقد أبحت لكم مع ذلك أن تدعو لمعاونتكم ومساعدتكم في بلوغ غايتكم كل من تستطيعون دعوته سوى الله - تعالى - وجاءت كلمة " سورة " منكرة ، للإِشارة إلى أنه لا يطالبهم بسورة معينة ، وإنما أباح لهم أن يأتوا بأية سورة من مثل سور القرآن ، حتى ولو كانت كأصغر سورة منه .
والضمير في { مثله } يعود إلى القرآن الكريم ، والمراد بمثله هنا : ما يشابهه في حسن النظم ، وجمال الأسلوب ، وسداد المعنى ، وقوة التأثير .
وقوله : { وادعوا } من الدعاء ، والمراد به هنا : طلب حضور المدعو أي نادوهم .
وكلمة { من } في قوله { مَنِ استطعتم } تشمل آلهتهم وبلغاءهم وشعراءهم وكل من يتوسمون فيه العون والمساعدة .
وكلمة { دون } هنا بمعنى غير أى : ادعوا لمساعدتكم كل من تستطيعون دعوته غير الله - تعالى - فإنه وحده القادر على أن يأتي بمثله .
وقوله : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } جملة شرطية ، وجوابها محذوف لدلالة الكلام السابق عليه ، أى : كنم صادقين في دعواكم أني افتريت هذا القرآن ، فهاتوا سورة مثله مفتراة ، فإنكم مثلي في العربية والفصاحة .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد تحدتهم وأثارت حماستهم ، وأرخت لهم الحبل ، وعرضت بعدم صدقهم ، حتى تتوافر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها .
قال الآلوسى : " هذه الآية الدالة على إعجاز القرآن ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - تحدي مصاقع العرب بسورة ما منه ، فلم يأتوا بذلك ، وإلا فلو أتوا بذلك لنقل إلينا ، لتوفر الدواعي على نقله " .
هذا وقد عقد صاحب الظلال فصلا طويلا للحديث عن إعجاز القرآن فقال : " وقد ثبت هذا التحدى ، وثبت العجز عنه ، وما يزال ثابتاً ولن يزال ، والذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، ويتذوقون الجمال الفنى والتناسق فيها ، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية ، والأصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الحاجة الإِنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها ، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشرى واحد ، أو مجموعة من العقول في جبل واحد أو في جميع الأجيال ، ومثلهم الذين يدرسون النفس الإِنسانية ووسائل الوصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ، ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه .
فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ، ولكنه الإِعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفى النظم والتشريعات والتقسيمات وما إليها . . . "
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : أم يقول هؤلاء المشركون : افترى محمد هذا القرآن من نفسه ، فاختلقه وافتعله . قل يا محمد لهم : إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته ، فإنكم مثلي من العرب ، ولساني وكلامي مثل لسانكم ، فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن . والهاء في قوله «مثله » كناية عن القرآن . وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : معنى ذلك : قل فأتوا بسورة مثل سورته ، ثم ألقيت «سورة » وأضيف المثل إلى ما كان مضافا إليه السورة ، كما قيل : وَاسْئَلِ القَرْيَةَ يراد به : واسأل أهل القرية . وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله ويزعم أن معناه : فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن .
والصواب من القول في ذلك عندي أن السورة إنما هي سورة من القرآن ، وهي قرآن ، وإن لم تكن جميع القرآن ، فقيل لهم : فأْتُوا بِسُورِةٍ مِنْ مِثْلِهِ ولم يقل : «مثلها » ، لأن الكناية أخرجت على المعنى ، أعني معنى السورة ، لا على لفظها ، لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل : فأتوا بسورة مثلها . وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ يقول : وادعوا أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها من قدر تم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم مِنْ دُونِ الله يقول : من عند غير الله ، فأجمعوا على ذلك واجتهدوا ، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورة مثله أبدا .
وقوله : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول : إن كنتم صادقين في أن محمدا افتراه ، فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها ، فإن لم تفعلوا ذلك فلا شكّ أنكم كذبة في زعمكم أن محمدا افتراه لأن محمدا لن يعدو أن يكون بشرا مثلكم ، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورة مثله ، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.