الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

وقوله : { إِلاَّ اللمم } هو استثناء يَصِحُّ أنْ يكونَ مُتَّصِلاً ، وإنْ قدرته مُنْقَطِعاً ساغ ذلك ، وبِكُلٍّ قد قيل ، واخْتُلِفَ في معنى { اللمم } فقال أبو هريرة ، وابن عباس ، والشَّعْبِيُّ ، وغيرهم : اللمم : صِغَارُ الذنوب التي لا حَدَّ فيها ولا وَعِيدَ عليها ؛ لأَنَّ الناسَ لا يتخلَّصُونَ من مُوَاقَعَةِ هذه الصغائر ، ولهم مع ذلك الحُسْنَى إذا اجتنبوا الكبائر ، وتظاهر العلماءُ في هذا القول ، وكَثُرَ المائِلُ إليه ، وحُكِيَ عن ابن المُسَيِّبِ أَنَّ اللمم : ما خطر على القلب ، يعني بذلك لمَّةَ الشيطان ، وقال ابن عباس : معناه : إلاَّ ما أَلَمُّوا به من المعاصي الفَلْتَةُ والسَّقْطَةُ دون دوام ثم يتوبون منه ، وعنِ الحسن بن أبي الحسن أَنَّهُ قال : في اللَّمَّةِ من الزنا ، والسَّرِقَةِ ، وشرب الخمر ثم لا يعود ، قال ( ع ) : وهذا التأويلُ يقتضي الرِّفْقَ بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى ؛ إذِ الغالب في المؤمنين مواقعةُ المعاصي ، وعلى هذا أنشدوا ، وقد تَمَثَّلَ به النبي صلى الله عليه وسلم :

إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا

وقوله سبحانه : { إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } يريد : خلق أبيهم آدم ، ويحتمل أَنْ يرادَ به إنشاء الغذاء ، و( أجِنَّةٌ ) : جمع جنين .

وقوله سبحانه : { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } ظاهره النهيُ عن تزكية الإنسانِ نَفْسَهُ ، ويحتمل أَنْ يكونَ نهياً عن أنْ يُزَكِّيَ بعضُ الناسِ بعضاً ، وإذا كان هذا ، فَإنَّما يُنْهَى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية ، وأَمَّا تزكيةُ الإمامِ والقُدْوَةِ أحداً لِيُؤْتَمَّ به أو ليتهمم الناسَ بالخير ، فجائز ، وفي الباب أحاديثُ صحيحة ، وباقي الآية بَيِّنٌ .

( ت ) : قال صاحِبُ «الكَلِمِ الفارِقِيَّةِ » : أَعْرَفُ الناسِ بنفسه أَشَدُّهُمْ إيقاعاً للتهمة بِها في كل ما يبدو ويظهرُ له منها ، وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها مَنْ زَكَّاها ، وأَحْسَنَ ظَنَّهُ بها ؛ لأَنَّها مُقْبِلَةٌ على عاجل حظوظها ، مُعْرِضَةٌ عنِ الاستعداد لآخرتها ، انتهى . وقال ابن عطاء اللَّه : أَصْلُ كل معصيةٍ وغفلة ، وشهوة الرضا عن النفس ، وأصل كل طاعة ، ويقظة ، وعِفَّةٍ عَدَمُ الرضا منك عنها ؛ قال شارحه ابن عُبَّاد : الرضا عن النفس : أصل جميع الصفات المذمومة ، وعَدَمُ الرضا عنها أصلُ الصفات المحمودة ، وقدِ اتَّفق على هذا جميعُ العارفين وأرباب القلوب ؛ وذلك لأَنَّ الرضا عن النفس يوجب تغطيةَ عيوبِهَا ومساويها ، وعَدَمَ الرضا عنها على عكس هذا ؛ كما قيل :

وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ *** وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا

انتهى .