فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{أَوَلَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡـٔٗا} (67)

{ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا { 66 ) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا { 67 ) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا { 68 ) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا { 69 ) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا { 70 ) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا { 71 ) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا { 72 ) }

صدق اليقين والوفاء بأمانات الدين يسيرة على المصدقين بلقاء الله ؛ وإلى هذا يشير قول الحق جل علاه : { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه . . ){[1968]} ؛ أما الذين لا يؤمنون بالآخرة فقلوبهم منكرة ، ولقد سخروا حين ذكروا بالبعث ؛ { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين . أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ){[1969]} ؛ { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ){[1970]} ؛ وفي هذه الآية السادسة والستين من سورة مريم يخبر المولى سبحانه عن جنس الإنسان وطائفة من هذا الجنس الذين استبعدوا الإحياء بعد الإماتة بأنهم يتعجبون مما أخبرتهم به من أمر الساعة { بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ){[1971]} ؛ وعبر بالمضارع [ { يقول } ] إما استحضارا للصورة الماضية لنوع غرابة ، وإما لإفادة الاستمرار التجددي ، فإن هذا القول لا يزال يتجدد حتى ينفخ في الصور ، والهمزة للإنكار ، . . . وفي الكلام معطوف محذوف لقيام القرينة عليه ، أي : أئذا ما مت وصرت رميما لسوف الخ ؛ واللام هنا لمجرد التوكيد ، . . . وما في { إذا ما } للتوكيد أيضا ؛ والمراد من الإخراج : الإخراج من الأرض ، أو من حال الفناء . . {[1972]} .

{ أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } ؛ [ يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة ، يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئا ؟ أفلا يعيده ؟ وقد صار شيئا ؛ كما قال تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه . . ){[1973]} ؛ وفي الصحيح : " يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من آخره وأما أذاه إياي فقوله إن لي ولد وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد " ]{[1974]} .

{ فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا } أقسم الرب جل ثناؤه بأن حشر المنكرين للآخرة واقع لا محالة ، وسيقترنون في محشرهم بشياطينهم التي أطاعوها في معصية الله تعالى وجحود كلماته ؛ والفاء للاستئناف والواو للقسم ، وشرف المقسم به دليل على كمال العناية بالمقسم عليه ، وإضافة القسم إلى المخاطب وهو رسول الله بإجماع المفسرين تفخيم لشأنه ورفع من مقداره .

{ ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا . ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا . ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا } ؛ ثم لنسوقن المحشورين من هؤلاء المجرمين إلى جهنم مدفوعين دفعا وهم على ركبهم كما كانوا في موقف الحساب ، وإلى ذلك تشير آيات محكم الكتاب : { . . ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ){[1975]} ؛ عن قتادة وغيره : لشدة ما هم فيه لا يقدرون على القيام ؛ وقيل : جثيا على الركب للتخاصم ؛ و { حول جهنم } يجوز أن يكون داخلها ؛ ويجوز أن يكون قبل الدخول ؛ { ثم لننزعن } لعل المعنى : ثم لنبدأن بتعذيب أشدهم عتيا ثم الذي يليه ؛ حكى الكسائي أن التشايع التعاون ؛ ثم الله تبارك وتعالى عليم غاية العلم بمن هو أحق بدخول النار والاحتراق بسعيرها ، والخلود في لهبها وعذابها ، ثم لنحن أعلم من هؤلاء الذين ننزعهم من كل شيعة أولاهم بشدة العذاب ، وألحقهم بعظيم العقوبة . . .

{ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } ؛ . . وإن منكم أيها الناس إلا وارد جهنم ، كان على ربك يا محمد إيرادهموها . . قضى ذلك وأوجبه في أم الكتاب ، . . عن ابن عباس في قوله : { وإن منكم إلا واردها } ؛ قال : يدخلها . . . وقال آخرون : بل هو المر عليها{[1976]} ؛ . . . . وقال آخرون : بل الورود هو الدخول ، ولكنه عني الكفار دون المؤمنين ؛ . . .

{ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } . . ننجي من النار بعد ورود جميعهم إياها الذين اتقوا فخافوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه . . وندع الذين ظلموا أنفسهم فعبدوا غير الله وعصوا ربهم وخالفوا أمره ونهيه في النار . . بروكا على ركبهم . قال ابن زيد . . الجثي شر الجلوس لا يجلس الرجل جاثيا إلا عند كرب ينزل به .

[ قلت : وفي صحيح مسلم : " ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم " قيل : يا رسول الله ! وما الجسر ؟ قال : " دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم " الحديث ؛ وبه احتج من قال : إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنته هذه الآية لا الدخول{[1977]} فيها . ]{[1978]} .


[1968]:سورة الزمر. من الآية 9.
[1969]:سورة الصافات. الآيتان:15، 16.
[1970]:سورة سبأ. الآية7.
[1971]:سورة النمل. الآية66.
[1972]:ما بين العارضتين من روح المعاني
[1973]:سورة الروم. من الآية 27
[1974]:ما بين العلامتين [ ] من تفسير القرآن العظيم.
[1975]:سورة الجاثية. من الآية27؛ والآيتان:28، 29.
[1976]:أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: يرد الناس جميعا الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة ، عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس.
[1977]:الورود في اللغة يأتي بمعنى المرور والاقتراب، فيقال: وردت القافلة البلدة إذا قاربتها؛ وفي القرآن الكريم:{ولما ورد ماء مدين) أي مر به؛ إذ لم يدخل موسى في الماء وإنما حضره واقترب منه.
[1978]:ما بين العلامتين [ ] من الجامع لأحكام القرآن.