اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوَلَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡـٔٗا} (67)

ثم إن الله -تعالى- أقام للدلالة على صحة البعث فقال : { أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ } الآية{[21951]} قرأ نافع{[21952]} ، وابن عامر{[21953]} ، وعاصم{[21954]} ، وجماعة : " يَذْكُرُ " مضارع ذكر .

والباقون بالتشديد{[21955]} مضارع تذكَّر . والأصل : يتذكر ، فأدغمت التاء في الذال{[21956]} .

وقد قرأ بهذا الأصل وهو " يتذكَّر " أبيٌّ{[21957]} .

والهمزة في قوله : " أو لا يذكُرُ مؤخرة على حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور{[21958]} وقد رجع الزمخشري إلى قول{[21959]} الجمهور هنا فقال : الواو عطفت " لا يذكُرُ " على " يَقُولُ " ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف " عليه " {[21960]} وحرف العطف{[21961]} .

ومذهبه : أن يقدر بين حرف العطف وهمزة الاستفهام جملة يعطف عليها ما بعدها{[21962]} .

وقد فعل هذا أعني الرجوع إلى قول الجمهور في سورة الأعراف كما نبَّه عليه في موضعه{[21963]} .

قوله : { مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل بعثه{[21964]} ، وقدره الزمخشري : من قبل الحالة التي هو فيها ، " وهي حالة " {[21965]} بقائه{[21966]} .

فصل

قال بعض العلماء{[21967]} : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه ، إذ لا شك أنَّ الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ، ونظيره قوله تعالى { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ }{[21968]} ، وقوله{[21969]} : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }{[21970]} واحتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم ليس بشيء ، وهو ضعيف ؛ لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض ، وهذا المجموع ما كان شيئاً ، ولكن لم قلت : إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل{[21971]} كونه موجوداً فإن قيل : كيف أمر الله -تعالى- الإنسان بالتذكر مع أنَّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو ؟ .

فالجواب : المراد أو لا{[21972]} يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرئ{[21973]} " أو لا يذَّكَّرُ " مشدداً{[21974]} ، أما إذا قرئ{[21975]} " أو لا يذكُرُ " مخففاً{[21976]} ، فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأنَّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حيًّا في الدنيا ثم صار حيًّا{[21977]} .


[21951]:في ب: فقال أولا قوله تعالى: {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا}.
[21952]:هو نافع بن عبد الرحمن بن نعيم أبو رويم، أحد القراء السبعة، وإليه انتهت رئاسة القراءة بالمدينة أخذ القراءة عرضا عن جماعة من تابعي أهل المدينة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وأبي جعفر القارئ، وغيرهما، وروى القراءة عنه عرضا وسماعا إسماعيل بن جعفر وعيسى بن وردان، وغيرهما. مات سنة 169 هـ. طبقات القراء 2/330-334.
[21953]:هو عبد الله بن عامر اليحصبي، إمام أهل الشام في القراءة، أحد القراء السبعة، وكان أسنهم وأعلاهم سندا، قرأ على جماعة من الصحابة، وقيل: قرأ على عثمان بن عفان، مات سنة 118 هـ. طبقات القراء 1/423-425.
[21954]:تقدم.
[21955]:السبعة (410)، الحجة لابن خالويه (238)، الكشف 2/90، النشر 2/318، الإتحاف 300، فمن قرأ بالتخفيف جعله من الذكر الذي يكون عقيب النسيان، ومن قرأ بالتشديد جعله من التذكر الذي هو بمعنى التدبير.
[21956]:قال سيبويه: (ومما يدغم إذا كان الحرفان من مخرج واحد، وإذا تقارب المخرجان قولهم: يطّوّعون في يتطوّعون، ويذكرون في يتذكرون، ويسّمّعون في يتسمعون، الإدغام في هذا أقوى، إذ كان يكون في الانفصال، والبيان فيهما عربيّ حسن لأنهما متحركان، كما حسن في يختصمون ويهتدون. وتصديق الإدغام قوله تعالى: {يطّيّروا بموسى} و{يذكرون} الكتاب 4/474-475.
[21957]:المختصر (86)، الكشاف 2/418، تفسير ابن عطية 9/506، البحر المحيط 6/207.
[21958]:مذهب الجمهور أن همزة الاستفهام إذا كانت في جملة معطوفة بـ (الواو) أو بـ (الفاء) أو بـ (ثم) قدمت على العاطف. تنبيها على أصالتها في التصدير، ويعطف ما بعدها على ما قبلها. والزمخشري خالف الجمهور في ذلك فهو يعتبر الهمزة في محلها الأصلي، ويعطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف محافظة على إقرار حرف العطف على حاله من غير تقديم ولا تأخير. المغني 1/16، الهمع 69.
[21959]:في ب: لما رأى. وهو تحريف.
[21960]:عليه: تكملة من الكشاف.
[21961]:الكشاف 2/418.
[21962]:ويظهر ذلك في حديث الزمخشري عند قوله تعالى: {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} [البقرة: 100] قال: ("أو كلما" الواو للعطف على محذوف معناه: أكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا عهدا) الكشاف 1/85. وعند الجمهور المعطوف عليه قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} [البقرة: 99]. شرح الشافية 2/368. وضعف مذهب الزمخشري بما فيه من التكلف بتقدير المعطوف عليه بين الهمزة وحرف العطف، وعدم اطراده في جميع المواضع فقد رجع إلى رأي الجمهور كما في الآية هنا، وفي قوله تعالى: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} [الأعراف: 97، 98] حيث قال: (والفاء والواو في "أفأمن" و"أوأمن" حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار، فإن قلت: ما المعطوف عليه، ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله: "فأخذناهم بغتة"، وقوله"ولو أن أهل القرى" إلى "يكسبون" وقع اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطف بالفاء، لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك من أهل القرى يأتيهم بأسنا بياتا وآمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى) الكشاف 2/78.
[21963]:ب: موضعين. وهو تحريف.
[21964]:انظر البحر المحيط 6/207.
[21965]:ما بين القوسين سقط من ب.
[21966]:الكشاف 2/418.
[21967]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 21/242.
[21968]:[يس: 79].
[21969]:في ب: ومثله.
[21970]:[الروم: 27].
[21971]:في ب: لم يكن.
[21972]:في ب: منتقى. وهو تحريف.
[21973]:في الأصل: أن لا. وهو تحريف.
[21974]:في الأصل: قرأ.
[21975]:وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وسبق تخريجها.
[21976]:وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر.
[21977]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 21/242.