اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ نَفۡقِدُ صُوَاعَ ٱلۡمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيمٞ} (72)

قوله : { نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك } " الصَّواعُ هو المِكْيَال ، وهو السِّقاية المتقدِّمة سمَّاه تارة والسِّقايةُ : وصفٌ .

وقيل : " ذُكِّرَ ؛ لأَنَّه صاعٌ ، وأنْثَ لأنَّهُ سِقايَة .

والصّواع السّقاية : إناءٌ له رأسان في وسطه مقبض ، كان الملك يشربُ منه من الرَّأسِ الواحدة ويكالُ الطَّعام بالرَّأسِ الآخرِ .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كلُّ شيء يُشربُ به فهو صُواعٌ ؛ وأنشد : [ الخفيف ]

3124 نَشْرَبُ الخَمْرَ بالصُّواعِ جِهَاراً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قيل : إنما كان الطعَّام بالصَّواع مبالغة في إكرامهم .

وقال مجاهدٌ ، وأبو صالح : الصُّواع الطرجهالة بلغة حميرٍ . وإنَّما اتخذ هذا الإناء مكيلاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت . وفيه قراءات كلُّها لغات في ذلك الحرف ، ويُذكِّر ، ويؤنَّث فالعامة : " صُوَاع " بزنة : " غُرَاب " ، العين مهملة ، وقرأ ابن جبير ، والحسن كذلك إلاَّ أنه بالغين المعجمة وقرأ يحيى بن يعمر كذلك ؛ إلا أنه حذف الألف ، وسكن الواو ، وقرأ زيد بن عليِّ " صَوْغ " كذلك إلا أنه فتح الصَّاد ، وجعله مصدراً ل : " صَاغَ " يَصُوغُ . والقراءتان [ قبله ] مشتقان منه وهو واقع موقع مفعول . أي : مصوغ الملك .

وقرأ أبو حميرة وابن جبير والحسن رضي الله عنهم في رواية عنهما " صِواعَ " كالعامة إلا أنهم كسروا الفاء . وقرأ أبو هريرة ومجاهد رضي الله عنهما : " صَاع " بزنة بَاب وألفه كألفه في كونها منقلبة عن واو مفتوحة وقرأ أبو رجاء : " صَوْع " بزنة " قَوْس " .

وقرأ عبدالله بن عون كذلك إلا أنه ضم الفاء فهذه ثمان قراءات متواترة وواحدة في الشاذ .

قوله : { وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } أي من الطعام ، { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } .

قال مجاهد : الزعيم هو المؤذن الذي أذن ، والزعيم : الكفيل .

قال الكلبيُّ : الزَّعيمُ : هو الكفيل بلسانِ أهل اليمنِ .

روى أبو عبيدة عن الكسائيِّ : زعمْتُ بِهِ أزعُم زُعْماً وزَعَامَةً ، أي : تكفلت به .

وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم ، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " الزَّعيمُ غَارِمٌ " .

فإن قيل : هذه الكفالةُ شيءٌ مجهولٌ ؟ .

فالجواب : حمل البعير من الطَّعام كان معلوماً عندهم ، فصحت الكفالةُ به إلاَّ أن هذه الكفالة ما لرد السَّرقة ، وهي كفالةٌ بما لم يجب ؛ لأنَّه لا يحلُّ للسَّارقِ أن يأخذ شيئاً على ردّ السِّرقةِ ، ولعلّ مثل هذه الكفالة كانت تصحُّ عندهم .

فصل

قال القطربيُّ : " تجوز الكفالةُ عن الرِّجلُ ؛ لأنَّ المؤذن هو الضَّامنُ وهو غير يوسف صلوات الله وسلامه عليه .

قال علماؤنا : إذا قال الرجلُ : تحمَّلتُ ، أو [ تكفلت ] أو ضمِنتُ ، أو أنا حميلٌ لكل أو زعيمٌ ، أو كفيلٌ ، أو ضامنٌ ، أو قبيلٌ ، أو لك عندي ، أو علي ، أو إليّ ، أو قبلي ، فذلك كلُّه [ حَمالةٌ ] لازمةٌ .

واختلفوا فيمن تكفل بالنفس ، أو بالوجه هل يلزمه ضمانُ المالِ " .

فقال الشافعيُّ رضي الله عنه في المشهور عنه ، وأحمد : مَن تكفَّل بالنَّفس لم يلزمه الحقٌّ الذي على المطلوب إن ماتَ .

وقال مالكُ ، والليثُ ، والأوزاعيُّ : إذا تكفل نفسه ، وعليه مال ، فإن لم يأت به غرم المال ، ويرجع به على المطلوب ، فإن اشترط ضمان نفسه ، أو وجهه ، وقال : لا أضمن المال ، فلا شيء عليه من المال " .

فصل

واختلفوا فيما إذا تكفَّل رجلٌ عن رجلٍ بمالٍ ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما ؟ .

فقال الأوزاعيُّ ، والشافعيُّ ، وأحمد ، وإسحاق : يأخذ من شاء منهما ، وهذا كان قولم مالكٍ ، ثمُّ رجع عنه فقال : لا يأخذُ من الكفيل إلاَّ أن يفلس الغريمُ ، أو يغيبُ ؛ لأنَّ البداءة بالذي عليه الحق أولى إلاَّ أن يكون معدماً ، فإنَّه يأخذُ من الحميل ؛ لأنه معذورٌ في أخذه في هذه الحالةِ ، وهذا قولٌ حسنٌ ، والقياسُ : أنَّ للرَّجُلِ مطالبة من شاء منهما .

وقال ابنُ أبي ليلى : إذا ضمن الرَّجلُ عن صاحبه مالاً ؛ تحوَّل على الكفيل ، وبرىء الأصيل ، إلاَّ أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ من أيهما شاء .