اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} (77)

قوله : { فَقَدْ سَرَقَ } الجمهور على " سرقَ " مخففاً مبنيًّا للفاعل ، وقرأ أحمدُ بن جبير الأنطاكيُّ ، وابن شريحٍ عن الكسائيِّ ، والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين : " سُرِّقَ " مشدداً مبينًّا للمفعول أي : نسب إلى السرقة ؛ لأنَّهُ ورد في التَّفسيرِ : أنَّ عمته ربته ، فأخذهُ أبوه منها ؛ فشدت في وسطه منطقة كانوا يتوارثونها من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ففتشوا فوجدوها تحت ثيابه ، فقالت : هو لي ، فأخذته كما في شريعتهم ، ومن هنا تعلم يوسف وضع السِّقاية في رحل أخيه ، كما فعلت به عمَّتهُ ، وهذه القراءة منطبقةٌ على هذا .

وقال سعيدُ بن جبيرٍ : كان لجدِّهِ أبي أمه صنمٌ يعبده ، فأخذه سراً ، وكسره وألقاهُ في الطَّريق .

وقال مجاهدٌ : أخذ بيضةً من البيتِ فأعطاها سائلاً . وقيل : دجاجة وقال وهبٌ رحمه الله : كان يُخبىءُ الطَّعام من المائدة للفقراء فقالوا للملك : إنَّ هذا ليْسَ بغَريبٍ منهُ ، فإنَّ أخاهُ الَّذي هلك كان أيضاً سارقاً ، أي إنَّا لسنا على طريقته ، ولا على سيرته ، وهو وأخوه مختصان بهذه الطَّريقةِ ؛ لأنهما من أم أخرى .

قوله : " فأسرَّها " قال بعضهم : الضَّمير المنصوب مفسَّر لسياق الكلام ، أي : فأسرَّ الحزازة التي حصلت له من قولهم : { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } ؛ كقوله : [ الطويل ]

3129 أمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى *** إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدرُ

فالضمير في " حَشْرَجَتْ " يعود على النَّفسِ ، كذا ذكرهُ أبو حيَّان .

وقد جعل بعضهم البيت ممَّا فُسِّر فيه الضمير بذكْرِ ما هُو كلُّ لصاحبِ الضَّمير ، فلا يكُونُ ممَّا فُسِّر فيه بالسِّياقِ .

وقال الزخشريُّ إضمارٌ على شريطةِ التَّفسيرِ ، يفسره " أنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً " وإنَّما أنَّث ؛ لأن قوله : " شَرٌّ مَكَاناً " جملة ، أو كلمة على تسميتهم الطَّائفة من الكلام كلمة ، كأنَّه قيل : فأسر الجملة ، أو الكلمة التي هي قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } قال : لأن قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } بدل من " أسَرَّها " .

قال شهابُ الدِّين : وهذا عند من يبلد الظاهر من المضمر في غير المرفوع ؛ نحو ضَرَبتهُ زيداً ، والصحيح وقوعه ؛ كقوله : [ الرجز ]

3130 فَلاَ تَلُمْهُ أنْ يَخَافَ البَائِسَا ***

وقرأ عبدالله وابنُ أبِي عبلة : " فأسَرَّهُ " بالتَّذكيرِ قال الزخشريُّ " يريد القول ، أو الكلام " .

وقيل : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وتقديره : قال في نفسه : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } وأسرَّها أي هذه الكلمة .

قال شهاب الدين : ومثل هذا ينبغي ألاَّ يقال ، فإنَّ القرآن ينزَّهُ عنه و " مَكَاناً " تمييز ، أي : منزلة من غيركم ، والمعنى : أنتم شرٌّ منزلاً عند الله ممن رميتموه بالسَّرقةِ في صنيعكم بيوسف ؛ لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقة ، وخيانتكم حقيقة .

وقد طعن الفارسيُّ رحمه الله على كلام الزمخشريِّ من وجهين :

الأول : قال الإضمارُ على شريطة التفسير يكون على ضربين :

أحدهما : أن يفسَّر بمفردٍ ، كقولنا : نِعْمَ رجُلاً زيدٌ ، ففي : " نعم " ضمير فاعلها و " رَجُلاًُ " تفسير لذلك الفاعل المضمر .

والآخر : أن يفسر بجملة ، وأصلُ هذا يقع به الابتداء ، كقوله : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ } [ الأنبياء : 97 ] و { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] والمعنى : القصَّة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر : الله أحد ، ثمَّ إنَّ العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً ، كقوله { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } [ طه : 74 ] { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } [ الحج : 46 ] .

وإذا عرفت هذا فنقول : نفس المضمر على شريطة التَّفسير في كلا الجملتين متَّصلٌ بالجملة التي فهيا الإضمار ، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة ، ولا مبايناً لها ، وههنا التفسير منفصل عن الجملة الَّتي حصل فيها الإضمار ؛ فوجب ألاَّ يحسن .

والثاني : أنَّهُ تعالى قال : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } وذلك يدل على أنه ذكر ذكر ذلك الكلام ، ولو قلنا : إنَّهُ صلوات الله وسلامه عليه أضمر هذا الكلام لكان قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } كذباً .

قال ابن الخطيب : " وهذا الطَّعنُ ضعيفٌ من وجوه :

الأول : لا يلزمُ من حسن القسمين الاولين قبح قسمٍ ثالثٍ .

وأما الثاني : فلأنا نحملُ ذلك على أنه صلوات الله وسلامه عليه قال ذلك على سبيل الخفية ، وبهذا [ التقسيم ] سقط السُّؤالُ .

والوجه الثاني : وهو أنَّ الضمير في قوله : " فأسَرَّهَا " عائدٌ إلى الإجابة ، كأنَّهم لما قالوا : { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } أسرَّ يوسف عليه السلام إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ، ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقتٍ ثانٍ ، ويجوز أن يكون إضماراً للمقالة ، والمعنى : أسرَّ يوسف مقالتهم ، والمراد من المقالةِ متعلق تلك المقالة ؛ كما يرادُ بالخلقِ الملخوقُ ، وبالعِلْمِ المَعْلُوم ، يعني : أسرَّ يوسف كيفية تلك السَّرقة ، و لم يبين لهم أنها كيف وقعت ، وأنه ليس فيها ما يوجب الطَّعن " .

رُوِيَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنه قال : عُوقِبَ يوسف ثلاث مرَّاتِ : لأجْلِ همِّه بها ؛ فعُوقِبَ بالحَبْسِ ، وبقوله : { اذكرني عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] ؛ عوقب بالحبس الطَّويل ، وبقوله : " إنَّكُم لسَارقُونَ " عوقب بقوله : { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } .

ثم قال : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } ، أي : أنتم شرٌّ منزلة عند الله ، بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم ، وعقوق أبيكم ؛ ثم بعتموه بعشرين درهماً ، ثمَّ بعد المدَّة الطويلة ، والزَّمان المديد ، ما زال الحقدُ والغضبُ عن قلوبكم ؛ فرميتموه بالسَّرقة ، { والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } ، أي : إن سرقة يوسف كانت لله رضا ؛ فلا توجب عود الذمِّ واللَّوم إليه .