كما رَغَّبَ في الجِهَادِ ، أتْبَعَ ذلِك ببَيَانِ أحْكَام الجِهَاد ، ومن أحْكَامه : التَّحْذِير عن قَتْل المُسْلِمِين على سبيل العَمْدِ والخَطَأ وعلى تأويل الخَطَأ ، ثم أتْبَعَهَ بحُكْم آخر ؛ وهو بَيان فَضْل المُجَاهِد على غَيْرِه .
وقيل : لما عاتبهم على قَتْل المتكَلِّم بالشَّهادة ، فلعَلَّه وَقَعَ في قُلُوبهم أن الأوْلى الاحْتِرَاز عن الجِهَادِ ؛ للوقوع في مِثْل هذا المَحْذُورِ فذكر عَقِبه{[9385]} فَضْل المُجَاهد على غَيْره ؛ إزالَة لهذه الشُّبْهَة .
قوله " غير أولي الضرر " قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو وحَمْزَة وعَاصِم : " غير " بالرفع ، والباقون : بالنَّصْب ، والأعْمَش{[9386]} : بالجرِّ .
أظهرهما : أنه على البَدَل من " القاعدون " وإنما كان هذا أظْهَر ؛ لأن الكَلاَم نفي ، والبدلُ معه أرْجَحُ ؛ لما قُرِّر في علم النَّحْو .
والثاني : أنه رَفْعٌ على الصِّفَة ل " القاعدون " ، ولا بد من تأويل ذلك ؛ لأن " غير " لا تتعَرَّفُ بالإضَافَة ، ولا يَجُوز اختِلاَفُ النَّعت والمَنْعُوت تعريفاً وتنكيراً ، وتأويله : إمَّا بأن القاعِدِين لَمَّا لم يَكُونوا نَاساً بأعْيَانِهِم ، بل أُرِيد بهم الجَنْسُ ، أشْبَهوا النَّكِرة فَوُصِفوا كما تُوصَف ، وإمَّا بأن " غير " قد تَتَعَرَّف إذا وقَعَت بين ضِدَّين ، وهذا كما تَقَدَّم في إعْرَاب { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] في أحَد الأوْجُه ، وهذا كلُّه خُرُوج عن الأصُول المقرَّرة ، فلذلك اخْتِير{[9387]} الأوّل ؛ ومثله : [ الرمل ]
وَإذا أقْرِضْتَ قَرْضَاً فَاجْزِهِ *** إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى غَيْرُ الْجَمَلْ{[9388]}
برفع " غير " كذا ذكره أبو عَلِيّ ، والرِّوَاية : " لَيْسَ الجَمَلْ " عند غَيْره .
وقال الزَّجَّاج : ويجُوزُ أن يكُون " غير " رفعاً{[9389]} على جِهَة الاستِثْنَاءِ ، والمعنى : لا يَسْتَوِي القَاعِدُون من المُؤمنين والمُجَاهِدُون ، إلا أولي الضَّرَر فإنَّهم يساوون المُجَاهِدِين ، أي : الذين أقعدهم{[9390]} عن الجِهَاد الضَّرر ، والكَلامُ في رفع المُسْتَثْنَى بعد النفي قد تقدم عِند{[9391]} قوله : { مَّا فَعَلُوهُ{[9392]} إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
والنَّصْب على [ أحد ]{[9393]} ثلاثة أوْجُه :
[ الأوّل ]{[9394]} : النَّصْبُ على الاستِثْنَاء من " القاعدون " [ وهو الأظهر ؛ لأنه المحدَّثُ عَنْهُ ، والمعنى : لا يَسْتَوِي القَاعِدُون ]{[9395]} إلا أولِي الضَّرَر ، وهو اخْتِيَار الأخْفَش .
والثاني : من " المؤمنين " وليس بِوَاضِح .
والثالث : على الحَالَ من " القاعدون " [ والمعنى : لا يستوي القاعدون ]{[9396]} في حَالِ صِحَّتهم والمُجَاهِدُون ؛ كما يُقَال : جاءَني زيد غير مَرِيضٍ ، أيك جاءني زَيْد صَحِيحاً ، قاله الزَّجَّاج والفرَّاء ؛ وهو كقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } [ المائدة : 1 ] .
والجرُّ على الصفَة للمؤمنين وتأويله كما تقدم في وجه الرفع على الصفة .
قال الأخْفَش القراءة بالنَّصْب على الاستثنَاء أوْلَى ؛ لأن المَقْصُود منه استِثْنَاء قوم لم يَقْدرُوا على الخُروج ؛ كما روي في التَّفْسير أنه لما ذَكَر الله - تعالى - فضيلة المُجَاهِدِين ، جاء قَوْمٌ من أولي الضرر ، فقالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم : حالتنا كما تَرَى ، ونحن نَشْتَهِي الجِهَاد ، فهل لنا من طَرِيقٍ ؟ فنزل { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } فاستثناهم الله - تعالى - .
وقال آخرون : القِرَاءة بالرَّفع أولى ؛ لأن الأصْل في كلمة " غَيْر " أن تكون صفة ، ثم إنها وإن كانت صِفَة ، فالمقصُود والمَطْلُوب من الاستثناء حاصِل ؛ لأنَّها في كلتا الحَالتَيْن أخْرَجت أولي الضَّرر من تلك المَفْضُولِيَة ، وإذا كان هذا المَقْصُود حَاصِلاً على كلا التقديرين ، وكان الأصل في كلمة " غير " أن تَكُون صفة ، كانت القراءة بالرَّفْع أوْلَى . فالضَّرر النُّقْصَان ، سواء كان بالعَمَى أو العَرَج أو المَرَض ، أو بسبب عَدَمِ الأهْبَة .
روى ابن شهاب عن سَهْل بن سعد السَّاعِدِي - رضي الله عنه - ؛ أنه قال : " رأيتُ مَرْوَان بن الحكم جَالِساً في المَسْجِد ، فأقَبْلت حَتَّى جلست إلى جَنْبِه ، فأخبرنا أن زَيْد بن ثَابتٍ - رضي الله عنه - أخبره ؛ أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم أملَى عَلَيه " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " ، قال : فجاء ابنُ أمِّ مَكْتُوم وهو يُمْلِيها عليَّ ، فقال : يا رسُول الله ، لو أستطيعُ الجِهَاد لجَاهَدتُ ، وكان رجلاً أعْمَى ، فأنزل الله - تعالى - عليه وفخذُهُ على فَخْذِي ، فثقلتْ عليّ حَتَّى خِفْتُ أن ترضَّ فَخذِي ، ثم سري عنه " ، فأنزل الله : { غير أولي الضرر }{[9397]} في فضل الجهاد والحثِّ عليه .
روى أنس - رضي الله عنه - ؛ أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رَجَع من غَزْوَة تَبُوك ، فَدَنَا من المَدِينَة فقال : " إن في المَدِينَة لأقْوَاماً ما سرتُمْ من مسيرٍ ولا قَطَعْتُم من وَادٍ وإلا كَانُوا مَعَكُم فيه ، قالوا : يَا رسُول الله وَهُم بالمَدِينَة ؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبَسهم العذر " {[9398]} ، وروى مقسم عن ابْن عبَّاس ؛ قال : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } عن بَدْر ، والخَارِجُون إلى{[9399]} بدر .
وقوله : { في سبيل الله بأموالكم } كلا الجارَّيْن متعلِّق ب " المُجَاهِدُون " و " المُجَاهِدُون " عَطْف على القَاعِدُون .
اخْتَلَفُوا في هذه الآية : هل تَدُلُّ على أن المُؤمنين القَاعِدِين الضْراء ، يُسَاوُون المجاهدين أم لا ؟ .
قال بعضهم : لا تدل ؛ لأنا إن حملنا لفظ " غَيْر " على الصفَة ، وقلنا : [ إن ]{[9400]} التَّخْصِيص بالصِّفَة لا يدل على نَفْي الحُكْم عمّا عَدَاه ، لم يلزم ذلك ، وإن حَمَلْنَاه على الاستِثْنَاء ، وقلنا : [ إن ]{[9401]} الاستثناء من النَّفي ليس بإثْبَات ، لم يلزم أيضاً ذلك ، أمَّا إذا حَمَلْنَاه على الاستثناء وقلنا : الاستثناء من النَّفْي إثبات ، لزم القَوْل بالمُسَاوَاة .
واعلم أن هذه المُسَاواة في حق الأضْرَاء ، عند من يَقُول بها مَشْرُوطة بشَرْط آخر ذكره الله - تعالى - في سُورة التَّوْبة ، وهو قوله : { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى } [ التوبة : 91 ] إلى قوله : { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] ، ويدل على المُسَاواة ما تقدَّم في حَدِيث غزوة تَبُوكٍ .
وتقرير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " إن بالمدِينَةِ قَوْماً ما سلكتُم وادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم " {[9402]} ، وقال عليه السلام : " إذا مَرِض العَبْدُ قال الله - تعالى - : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ " {[9403]} .
وقال المُفَسَِّرون{[9404]} في قوله - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [ التين : 5 ، 6 ] ؛ أن من صَار هرماً ، كتب له أجْر عمله قبل هرمه غير مَنْقُوص ، وقالوا في تَفْسِير قوله - عليه الصلاة والسلام - " نِيَّة المُؤْمِن خَيْرٌ من أجْر عَمَلِهِ " إن المُؤْمِن يَنْوِي الإيمان والعمل الصَّالح ، لو عاش لهذا لا يحصَّل له ثواب تلك النِّيَّة أبداً .
قوله - تعالى - : { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } لما بيَّن [ تعالى ]{[9405]} أن المُجاهدين والقاعِدين لا يَسْتَويان ، ثم إن عَدَم الاسْتِوَاء يَحْتَمل الزِّيَادة والنُّقْصَان ، لا جرم بَيَّنَه الله - تعالى - .
قوله : " درجةً " في نصبه أربعة [ أوْجُه : ]
أحدها : أنها مَنْصُوبة على المَصْدر ؛ لوقوع " درجة " موقع المَرَّة من التَّفْضِيل ؛ كأنه قيل : فَضَّلهم تَفْضيلة ، نحو : " ضَرَبْتُه سَوْطاً " وفائدة التنكير التَّفْخِيم .
الثاني : أنها حَالٌ من " المُجَاهِدِين " أي : ذوي درجة .
الثالث : مَنْصُوبة انتصابَ الظَّرْف ، أي : في دَرَجَةٍ ومَنْزِلة .
الرابع : انْتِصَابها على إسْقَاط الجَارِّ{[9406]} أي : بِدَرَجة .
فلما حُذِف الجَارُّ ، وَصَل الفِعْل فعَمِل ، وقيل : نُصِب على التَّمْيييز .
قوله : { وكلاًّ وعد الله الحسنى } " كلاًّ " مَفْعُول أول ل " وَعَد " مُقَدماً عليه ، و " الحُسْنَى " مفعول ثان ، وقرئ{[9407]} : " وكُلٌّ " على الرَّفْع بالابتداء ، والجُمْلَة بعده خبره ، والعَائِد مَحْذُوف ، أي : وعده ؛ وهذه كَقِرَاءة ابن عامر في سورة الحديد :
{ وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ الحديد : 10 ] .
والمعنى : كلاًّ من القاعِدِين والمُجاهِدِين ، فقد وَعَدَه الله الحُسْنَى .
قال الفُقَهَاء : وهذا يَدُلُّ على أن الجِهَاد فرض كِفَايَةٍ ، وليس على كُلِّ واحدٍ بِعَيْنِه ؛ لأنه - تعالى - وعد القاعِدِين الحُسْنَى كما وعَد المُجَاهِدِين ، ولو كان الجِهَادُ واجِباً على كلِّ أحدٍ على التَّعْيين ، لما كان القَاعِدُ أهْلاً لوعد اللَّه إيَّاه الحُسْنَى .
وقيل : أراد ب " القَاعِدِين " هنا : أُولِي الضَّرَر ، فضَّل الله المُجَاهِدِين عليهم دَرَجَة ؛ لأن المُجَاهِد باشَر الجِهَاد مع النِّيَّة ، وأولُو الضَّرر لهم نِيَّة بلا مُبَاشَرة ، فنزلوا عَنْهُم درجَة وعلى هذا نزول الدَّلالة .
قوله - تعالى - : { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } في انتصاب " أجراً " أربعة أوجُه :
أحدها : النَّصْب على المَصْدَر من مَعْنَى الفِعْل الذي قَبْلَه لا من لَفْظِه ؛ لأن مَعْنَى " فَضَّلَ الله " : آجرَ ؛ فهو كقوله : أجْرُهُم أجْرٌ ، ثم قوله - تعالى - : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ [ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } بدل من قوله : " أجْراً " .
الثاني : أنه انْتَصَب على إسْقَاط الخافِضِ ، أي : فضلهم بأجْر .
الثالث : النَّصْب على أنَّه مَفْعُول ثاني ؛ لأنه ضَمَّن فضَّل معنى أعْطَى ، أي : أعْطَاهم أجراً تفضلاً مِنْه .
الرابع : أنه حالٌ من درجات ]{[9408]} .
قال الزمخشري{[9409]} : " وانتصب " أجْراً " على الحَالِ من النّكرة التي هي " دَرَجَاتٍ " مقدَّمةً عليها " وهو غير ظَاهِر ؛ لأنه لو تأخَّر عن " دَرَجَاتٍ " لم يَجُز أن يَكُون نعتاً ل " دَرَجَاتٍ " لعدم المطابقة ؛ لأنَّ " درجات " جَمْع ، و " أجْراً " مفرد ، كذا ردَّه بعضهم ، وهي غَفْلَة ؛ فإنَّ " أجراً " مَصْدرٌ ، والأفْصَحُ فيه يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مطلقاً ، [ وقيل : انتصَب على التَّمْيِيز ، و " دَرَجَاتٍ " عَطْف بَيَان ] .