{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ]{[9410]} فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً }
لما ذَكَر - [ تعالى ]{[9411]} - ثواب من أقْدَم على الجِهَاد ، أتْبَعَه بِعِقَاب من قَعَدَ عَنْهُ ورضي بالسُّكُون في دَارِ الحَرْبِ .
قوله : " توفَّاهم " يجوز أن يكون مَاضِِياً ، وإنما لم تَلْحَق علامة التَّأنيث للفعل ؛ لأن التأنيث مَجَازِيّ ؛ ويدلُّ على كونه فعلاً مَاضِياً قِرَاءَةُ " تَوَفتهُم " {[9412]} بتاء التأنيث .
قال الفرَّاء : ويكون مثل قوله : { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] فيكون إخْبَاراً عن حَالِ أقْوَام معيَّنين ، انْقَرَضُوا ومضوا{[9413]} ويجوز أن يَكُون مُضَارعاً حُذِفَتْ إحدى التَّاءَيْن تَخفيفاً مِنْه ، والأصل : تتوَفَّاهُم ، وعلى هذا تكُون الآيةُ عامَّة في حقِّ كلِّ من كان بهذه الصِّفَة .
و " ظَالِمي " حالٌ من ضَمِير " تَوَفَّاهُم " ، والإضافة{[9414]} غير محضة{[9415]} ؛ إذ الأصْل : ظَالِمين أنفُسِهم ؛ لأنه وإن أُضِيف إلى المَعرِفَةِ ، إلا أنه نَكِرةٌ في الحَقِيقة ؛ لأن المَعْنَى على الانْفِصَال ؛ كأنه قيل : الظَّالِمِين أنْفُسهم ، إلا أنَّهم لما حَذَفُوا [ النُّون ]{[9416]} طلباً للخِفة ، واسْم الفَاعِل سواء أُرِيد به الحَالُ أو الاستِقْبَال ، فقد يكُون مفصُولاً في المَعْنَى وإن كان مَوْصُولاً في اللَّفْظِ ؛ فهو كقوله - تعالى - : { هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] ، و{ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] { ثَانِيَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] والتقدير : مُمْطِر لَنَا وبَالِغاً للكَعْبَةِ وثانِياً عِطْفه ، والإضافة في هَذِهِ المَوَاضع لَفْظِيَّة لا مَعْنَوِيَّة .
وفي خبر " إنَّ " هذه ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أنه مَحْذُوفٌ ، تقديُره : إنَّ الذين توفَّاهُم الملائكةُ هَلَكُوا ، ويكون قوله : " قالوا : فيم كنتم " مبيِّناً لتلك الجُمْلَةِ المَحْذُوفة .
الثاني : أنه { فأولئك مأواهم جهنم } ودخلت الفَاءُ زائدة في الخَبَر ؛ تشبيهاً للموصُول باسم الشَّرْط ، ولم تمنع " إنَّ " من ذَلِك ، والأخْفَش يَمْنَعُه ، وعلى هذا فَيَكُون قوله : " قالوا : فيم كنتم " إمَّا صفةً ل " ظَالِمِي " ، أو حالاً للملائكة ، و " قد " مَعَه مقدَّرَةٌ عند مَنْ يشتَرِط ذلك ، وعلى القول بالصِّفَة ، فالعَائِد محذوف ، أي : ظالمين أنْفُسَهم قَائِلاً لهم المَلاَئِكَة .
والثالث : أنه { قالوا فيم كنتم } ، ولا بد من تَقْدِيرِ العَائِد أيْضاً ، أي : قالوا لَهُم كذا ، و " فيم " خَبَرَ " كُنْتُم " ، وهي " ما " الاستِفْهَامِيَّة حُذِفَت ألِفُها حين جُرَّتْ ، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك عند قوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ } [ البقرة : 91 ] ، والجُمْلَة من قوله : " فيم كنتم " في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ ، و " في الأرض " متعلقٌ ب " مُسْتَضْعَفِين " ، ولا يجوز أن يكُون " في الأرْضِ " هو الخَبَر ، و " مُسْتَضْعَفِين " حالاً ، كما يَجُوز ذلك في نَحْو : " كان زيدٌ قائَماً في الدَّارِ " لعدمِ الفَائدة في هذا الخَبَر .
الأول : قول الجُمْهُور ، معناه تُقْبَض أرْوَاحهم عند الموْتِ .
فإن قيل : كيف الجَمْع بَيْنَه وبين قوله - تعالى - : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا }
[ الزمر : 42 ] ، { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
[ البقرة : 28 ] وبين قوله { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] .
فالجواب : خالق الموت هو الله - تعالى - ، والمُفَوَّض إليه هذا العمل هو مَلك المَوْت وسَائِر الملائكة أعْوانه .
الثاني : توفَّاهم الملائِكة ، يعني : يَحْشُرونهم إلى النَّارِ ، قاله الحَسَن .
الظُّلْم قد يُراد به الكُفْر{[9417]} ؛ كقوله - تعالى - : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، وقد يرادُ به المَعْصِيَة ؛ كقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] ، وفي المراد بالظُّلْمِ هَهُنَا قَوْلان :
الأول : قال بَعْضُ المُفَسِّرين{[9418]} : نزلت في نَاسٍ من أهْلِ مَكَّة ، تكلَّمُوا بالإسْلام ولم يُهَاجِرُوا منهم : قَيْس بن الفاكه{[9419]} بن المُغيرَة ، وقَيْس بن الوَليد وأشْبَاهُهُمَا ، فلما خَرَج المُشْرِكُون إلى بَدْر ، خرجوا مَعَهُم ، فقاتَلُوا{[9420]} مع الكُفَّار وعلى هذا أراد بِظُلْمِهِم أنْفُسَهُم : إقامَتَهُم في دَارِ الكُفْرِ{[9421]} ، وقوله - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ } أي : ملك المَوْتِ وأعْوَانِهِ ، أو أراد مَلَك المَوْتِ وَحْدَه ؛ لقوله - تعالى - : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] والعَرَبُ قد تُخَاطِب الوَاحِد بلَفْظ الجَمْع .
الثاني : أنها نَزَلَت في قَوْم من المُنَافِقِين ، كانوا يُظْهِرُون الإيمان للمُؤمِنِين خوفاً ، فإذا رَجَعُوا إلى قَوْمِهِم ، أظْهَرُوا لهم الكُفْر ، ولا يُهَاجِرُون إلى المَدِينَةِ{[9422]} .
وقوله : { قالوا فيم كنتم } من أمْرِ دينكُم ، وقيل : فيم كُنْتُم من حَرْب أعْدَائه ، وقيل : لما تركتم{[9423]} الجِهَاد ورَضِيتُم بالسُّكُون دَارِ الكُفَّار{[9424]} ؛ لأن الله - تعالى - لم يَكُن يَقْبَل الإسلام بعد هِجْرَةَ النَّبي{[9425]} صلى الله عليه وسلم إلا بالهِجْرَة ، ثم نَسَخَ ذلك بَعْدَ فَتْحِ مكَّة بقوله " لا هِجْرَة بَعْدَ الفَتْح " وهؤلاء قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ ، وضرَبَت الملائكةُ وجوهَهُم وأدْبَارَهُم ، وقَالُوا لهم : فيم كُنْتُم ؟ [ " قالوا كُنَّا " ]{[9426]} أي : في ماذا كُنْتُم أو في أيِّ الفَرِيقَيِْن كنتم ؟ أفي المُسْلِمين أو في المُشْرِكِين ؟ سُؤال توبيخ وتَقْرِيع ، فاعتذروا بالضَّعْف عن مُقَاوَمَة المُشْرِكِين ، { وقالوا كنا مستضعفين } عَاجِزين{[9427]} ، " في الأرْضِ " يعني : أرْضَ مَكَّة .
فإن{[9428]} قيل : كان حَقُّ الجَوَاب أن يَقُولوا : كنا في كَذَا وكذا ، ولم نكُن في شَيْء .
فالجَواب : أن مَعْنَى " فِيمَ كُنْتُم " : التَّوْبِيخ ، بأنهم لم يَكُونوا في شَيْءٍ من الدِّين ، حَيْثُ قَدَرُوا على المُهَاجَرَة ولم يُهَاجِرُوا فقالوا : كُنَّا مستَضْعَفِين اعْتِذاراً عمَّا وُبَّخُوا بِه ، واعتِلالاً بأنَّهم ما كَانُوا قادِرِينِ على المُهَاجَرة ، ثم إنّ المَلاَئِكَة لم يَقْبَلُوا منهم هذا العُذْر ؛ بل ردُّوه عَلَيْهِم ، فقالوا : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } يعني أنكم كنتم قادرين على الخُرُوجِ من مَكَّة إلى بَعْضِ البِلاَدِ التي لا تُمْنَعُون فيها من إظْهَار دِينكُم ، فبقيتم{[9429]} بين الكُفَّار لا للعجز عن مُفَارَقَتِهِم ، بل مع القُدْرَة على المُفَارَقَة{[9430]} .
وقد ورد لَفْظُ الأرْض على ثَمَانِية أوْجُه :
الثاني : أرْضُ المَدِينة ، قال الله - تعالى - : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } .
الثالث : أرض مَكَّة ؛ قال - تعالى - [ { قَالُواْ ]{[9431]} كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } أي : بمكَّة .
الرابع : أرْض مِصْر ؛ قال - تعالى - { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ } [ الإسراء : 103 ] .
الخامس : أرض الجَنَّة ؛ قال تعالى { وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ }
السادس : بُطُون النِّساء{[9432]} ؛ قال - تعالى - : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } [ الأحزاب : 27 ] يعني : النساء{[9433]} .
السابع : الرحمة ؛ قال - تعالى - : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } [ الزمر : 10 ] ، وقوله - تعالى - : { يا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ }
[ العنكبوت : 56 ] أي رحْمَتِي .
الثامن : القَلْب ؛ قال - تعالى - : { اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] ، أي : يحيى القُلُوب بعد قَسْوَتِها .
قوله : " فتُهاجِرُوا " مَنْصُوبٌ في جَوابِ الاسْتِفْهَام .
وقال أبو البَقَاء{[9434]} : " ألَمْ تَكُنْ " استِفْهام بمعنى التَّوْبِيخ ، " فتُهَاجِرُوا " مَنْصُوبٌ على جواب الاستفهام ؛ لأنَّ النَّفْي صار إثْبَاتاً بالاستفهَام . انتهى .
قوله : " لأنَّ النَّفْي " إلى آخره لا يَظْهَر تَعْلِيلاً لقوله : " مَنْصُوبٌ على جواب الاستِفْهَام " ؛ لأن ذلك لا يَصِحُّ ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه عِلّةً لقوله : " بمَعْنَى التَّوْبيخ " ، و [ " ساءت " ] : قد تَقَدَّم القول في " سَاء " ، وأنها تَجْرِي مَجْرى " بِئْس " فيُشْترط في فاعلها ما يُشْتَرَط في فَاعِلِ تيك ، و " مصيراً " : تَمْيِِيز .
وكما بَيَّن عَدَم عُذْرِهِم ، ذكر وعيدَهُم ، فقال : " فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً " [ أي : ]{[9435]} بِئْس المَصِير إلى جَهَنَّم .