اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ} (112)

الكاف في " كَذِلِك " في محلِّ نَصْب ، نعتاً لِمَصْدَر مَحْذُوف ، فقدَّره الزَّمَخْشَري : " ما خَلَّيْنا بَيْنَك وبين أعْدَائِك ، كذلك فَعَلْنا بِمَنْ قَبْلك " .

وقال الوَاحِدي : " وكذلك " منسُوقٌ على قوله : " وكَذَلِكَ زَيَّنَّا " أي : فَعَلْنا ذَلِك كذلك " جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عَدُوًّا " ، ثم قال : وقيل : مَعْنَاه جَعَلْنا لَكَ عَدُوًّا كما جَعْلْنا لمن قَبْلَك من الأنْبِيَاء ، فَيَكُون قوله : " وكذلك " عَطْفاً على مَعْنَى ما تقدَّم من الكلام ، وما تقدَّم من الكلام ، وما تقدَّم يدلُّ مَعْنَاهُ علىأنَّه جعل له أعْدَاء [ والمراد : تَسْلِيَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، أي : كما ابتُليت بِهَؤلاء القَوْم ، فكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ قَبْلك أعْدَاء ]{[14997]} .

و " جَعَلَ " يتعدى لاثْنَيْن بمعنى : صَيَّر . وأعْرَب الزَّمَخْشَري ، وأبو البقاء{[14998]} والحوفي هنا نحو إعرابهم في قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ الجن } [ الأنعام : 100 ] فَيَكُون المَفْعُول الأول " شَيَاطِين الإنْس " ، والثاني " عَدُواً " ، و " لكلِّ " : حال من " عَدُواً " لأنَّه صفته في الأصْل ، أو مُتعلِّق بالجعْل قَبْلَه ، ويَجُوز أن يكون المَفْعُول الأول " عُدُوّاً " و " لكلِّ " هو الثَّانِي قُدِّم ، و " شياطين " : بَدَل من المفعول الأوّل .

والإضافة في : " شَيَاطِين الإنْس " يحتمل أن تكون من بابِ إضافَة الصِّفةِ لِمَوْصُوفها ، والأصْل : الإنْس والجن الشَّياطين ، نحو : جَرْد قَطِيفَة ، ورجَّحْتُه ؛ بأنَّ المقصود : التَّسلِّي والاتِّسَاءُ بمن سَبَق من الأنْبِيَاء ، إذ كان في أمَمِهم مَنْ يُعادِلُهم ، كما في أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن تكُون من الإضافة الَّتِي بمَعْنَى اللام ، وليست من بابِ إضافة صِفَة لِمَوصُوف ، والمعنى : الشَّياطين التي للإنْس ، والشَّياطين التي لِلْجِنّ ، فإن إبليس قَسَّم جُنْده قسمين : قِسْمُ مُتسَلِّط على الإنْسِ ، وآخر على الجِنِّ ، كذا جاء في التَّفْسِير . ووقع " عَدُواً " مفعولاً ثَانِياً ل " شَيَاطِين " على أحَد الإعْرَابَيْنِ بِلَفْظ الإفْراد ؛ لأنَّهُ يُكْتَفى به في ذلك ، وتقدَّم شَوَاهِده ، ومِنْه ما أنْشَده ابن الأنْبَارِي : [ الطويل ]

إذَا أنَا لَمْ أنْفَعْ صَدِيقِي بِوُدِّهِ *** فإنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرَّهُمُ بُغْضِي{[14999]}

فأعاد الضَّمير مِنْ " يَضُرَّهُم " على " عَدُوّ " فدل على جَمْعِيَّته ؛ وكقوله تعالى : { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكرمين } [ الذاريات : 24 ] ، { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] { إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 2 ، 3 ] .

وقيل لا حَاجَة إلى هذا التَّكْليف ، والتَّقْدِير وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ واحد من الأنْبِيَاء عُدُوّاً واحِداً ، إذ لا يَجِبُ أن يَكُون واحدٍ من الأنْبِيَاء أكْثَر من عُدوّ واحد .

فصل في دلالة الآية

دلَّ ظاهر قوله -تعالى- : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً } على أنَّه -تبارك وتعالى- هو الذي جَعَل أولَئِك الأعْداء أعْدَاءً للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ، ولا شكَّ أن تلك العدَاوة مَعْصِيَة وكُفْر ، فهذا يَقْتَضِي أن خَالِق الخَيْر ، و الشَّر ، والطَّاعة ، والمَعْصِيَة ، والإيمان والكُفْر هُو اللَّه تعالى .

وأجاب الجُبَّائي{[15000]} عَنْه ؛ بأن المُرَاد من هذا الجَعْل : الحُكم والبَيَان فإن الرَّجُل إذا حَكَم بِكُفْر إنْسَان ، قيل : إنه كَفَّرَه ، وإذا أخْبر عن عَدَالتِه ، قيل إنه عدّله ، فكذا ههنا أنَّه -تعالى- لما بيَّن للرسول - عليه الصلاة والسلام- كونهم أعْدَاء له لا جَرَم قال : إنَّه جعلهُم أعْدَاءً له وأجاب الأصَمُّ{[15001]} : بأنه -تعالى- لما أرْسَل محَمّداً صلى الله عليه وسلم إلى العَالمِيَن ، وخصَّه بِتِلْكَ المُعْجِزات ، حسدُوه ، وصار ذلك الحَسَد سَبَباً للعَداوَة القَوِيّة فَلِهَاذا قال إنَّه -تعالى- : جعلهم أعْدَاء له ونَظِيرُه قول المُتَنَبِّي : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ [ لِيَ ] حُسَّدَا{[15002]}

وأجاب الكَعْبِي{[15003]} عنه : بأنَّه -تبارك وتعالى- أمَر الأنْبِيَاء بعَداوتهم ، وأعْلَمهم كونهم أعْداءً له ، وذَلِك يَقْتَضِي صَيْرُورتهم أعْداءً للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام- ؛ لأنَّ العَدَاوَة لا تَحْصُل إلاَّ من الجَانِبَيْن ، فلهذا جاز أنْ يُقَال : إنه -تعالى- جعلهم أعْدَاء للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام- .

وهذه أجوبة ضَعِيفَة لما تقدَّم الأفْعَال مُسنَدة إلى الدَّواعي ، وهي حَادِثة من قبل اللَّه - تعالى- ، وإذا كان كذلك ، صَحَّ مَذْهَبُنَا ، ثم هَهُنا بَحْث آخر ، وهُو أنَّ العَدَاوَة ، والصداقة يمتنع أن تَحْصُل باخْتِيَار الإنْسَان ؛ فإن الرَّجُل قد يَبْلُغ في عَدَاوَة غَيره إلى حَيْث لا يَقْدِر ألْبَتَّة على إزَالة تلك الحَالَةِ عن قَلْبَه ، بل قَدْ لا يَقْدِر على إخْفَاء آثَار تلك العَداوة ، ولو أتى بكل تَكلُّفٍ وحيلة ، لعجز عنه ، ولو كان حُصُول العَدَاوة والصَّداقة في القَلْبِ باختيار الإنْسَان ، لوجَبَ أن يَكُونَ الإنْسَان متمكناً مِن قَلْب العَدَاوة بالصَّداقة ، وبالعَكْس ، فكيف لا ، والشُّعَراء عَرَفُوا أنّ ذلك خَارجٌ عن الوُسْع قال المُتَنَبِّي [ المتقارب ]

يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُمْ *** وَتَأبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِل{[15004]}

والعاشق الَّذِي يشتد عِشْقُه [ قد ] يَحْتَال بجميع الحِيَل في إزالة عِشْقِه ، ولا يقدر عَلَيْه ، ولو كان حُصُول ذلك الحُبِّ والبُغْضِ باخْتِيَاره ، لما عَجَز عن إزَالَتِهِ .

فصل في معنى الآية

قال عِكْرمة ، والضَّحَّاك ، والكَلْبِي{[15005]} : المعنى : شَيَاطِين الإنْس الَّتِي مع شَيَاطِين الجِنِّ ، وذلك أنَّ إبْلِيس قَسَّم جنده فَرِيقَيْن ، فبعث فَريقاً منهم إلى الإنْس ، و فريقاً إلى الجِنِّ ، وكلا الفَرِيقَيْن أعْداءٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولأوْلِيَائه ، وهم يَلْتَقُون في كل حين ، فيقول شَيْطان الإنْس لشيطان الجنِّ : أضَلْلت صَاحِبي بكَذا ، فأضلل صَاحِبك بِمُله ، ويقول شَيْطَان الجن لشيطان الإنس كذلك . فلذلك وصَّى بَعْضُهم إلى بَعْض .

وقال قتَادة ، وَمُجاهِد ، والحَسَن : إن من الإنْس شَيَاطين ، كما أن من الجنِّ شياطين{[15006]} ، والشَّيْطَان الثَّاني المتمرد من كُلِّ شَيْء .

قالُوا : إن الشَّيْطان إذا أعْيَاه المُؤمِن ، وعَجز عن إغوائه ، ذهب إلى مُتَمَرِّد من الإنْس : وهو شَيْطَان الإنْس ، فأغراه بالمُؤمِن ليفتنه ، يدلُّ عليه ما رُوِي عن أبِي ذرٍّ ، قال : قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هل تَعَوَّذت باللَّه من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس ، قلت يا رسُول الله ، وهل للإنْس من شَيَاطين ، قال نَعَمْ ، هم شرُّ من شَيَاطين الجِن " {[15007]} .

وقال مَالك بن دِينَار : إن شَيَاطين الإنْس أشَد عليَّ من شَيَاطِين الجِنِّ ، وذلك أنِّي إذَا تعَوَّذت باللَّه ، ذهب عني شَيَطان الجِنِّ ، وشيطان الإنس يجيبني ، فَيَجرُّني إلى المَعَاصي{[15008]} .

قوله : " يُوحي " يُحْتَمل أن يكون مُسْتَأنفاً ، أخبْرَ عنهم بذلك ، وأن يكون حالاً من " شياطين " وأن يكون وَصْفاً ل " عَدُوّاً " وقد تقدَّم وَاقِع مَوْقع أعْدَاء ، فَلذلك عَادَ الضَّمِير عَلَيْه جَمْعاً في قوله " بَعْضُهم " انتهى .

فصل في معنى قوله : " يوحي "

الوحي : هو عِبَارة عن الإيماءِ ، والقَوْل السَّريع ، والزُّخْرُف هو الذي يَكُون بَاطِنُه باطلاً ، وظاهر مُزَيَّناً ، يقال : فلان يزخرف كلامه ، إذا زَيَّنه بالبَاطِل والكذب ، وكلُّ شيء حَسَن مُمَوّه ، فهو مُزَخْرَف والزُّخْرف : الزِّينة ، وكلام مُزَخْرَف ، [ أي ] : مُنَمَّق ، وأصله الذَّهب ، ولما كان الذَّهب مُعْجِبٌ لكل أحَد ، قيل لكل مُسْتَحْسن مزين : زُخْرُف .

وقال أبو عُبَيْدة : كل ما حَسَّنْتَه ، وزيَّنته ، وهو بَاطِل : فهو زُخْرُف ، وهذا لا يَلْزَم ، إذ قد يُطْلَق على مَا هُو زِينَة حَقّ ، وبيت مُزَخْرَف ، أي : مُزَيَّن بالنَّقْش ، ومنه الحَدِيث : أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يَدْخُل الكَعْبَة حتى أمر بالزُّخْرف فَنُحِّيَ يعني : أنهم كَانُوا يُزَيِّنُون الكعبة بِنُقُوش ووتصاوير مُمَوَّهة بالذَّهب ، فأمر بإخْرَاجِها .

قوله : " غُرُوراً " قيل : نُصِب على المَفْعُول له ، أي : لا يَغُرُّوا غيرهم .

وقيل : هو مَصْدر في مَوْضِع الحَالِ ، أي : غارِّين ، وأن يَكُون مَنْصُوباً على المَصْدَر ؛ لأن العَامِل فيه بِمَعْنَاه ، كأنه قِيل : " يَغُرُّون غُرواً بالوَحي " .

قوله : " ولَوْ شَاء ربُّكَ ما فَعَلُوه " ما ألْقواه من الوسْوَسة في القُلُوب ، وقد تقدَّم الكلام في المَشِيئَة ومَدْلُولِها مع المُعتزلة .

قوله : " وما يَفْتَرُون " " ما " موصولة اسميَّة ، أو نكرة مَوْصُوفة ، والعَائِد على كلا هَذَين القَوْلَيْن محذُوفٌ ، أي : " وما يَفْتَرُونَه " أو مصدريَّة ، وعلى كُلِّ قوله فمحلُّهَا نَصْب ، وفيه وَجهَان :

أحدهما : أنها نَسَق على المَفْعُول في : " فَذَرْهُمْ " أي : اتْرُكْهُم ، واترك افْتِرَاءهم .

والثاني : أنَّها مفعول مَعَه ، وهو مَرْجُوحٌ ، لأنه متى أمكن العَطْف من غير ضَعْفٍ في التركب ، أو في المَعْنَى ، كان أوْلَى من المَفْعُول معه .

قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - يُرِيد بقوله : " فَذَرْهُم وما يَفْتَرون " : ما زيَّن لهم إبْليس وغرَّهُم{[15009]} .


[14997]:سقط في أ.
[14998]:ينظر: الإملاء 1/258.
[14999]:ينظر البيت في تفسير الفخر الرازي 13/154، البحر 4/209، الدر المصون 3/160.
[15000]:ينظر: الرازي 13/125.
[15001]:ينظر: المصدر السابق.
[15002]:عجز بيت وصدره: أزل حسد الحساد عني بكبتهم *** ............. ينظر: ديوان المتنبي 2/126، والفخر الرازي 13/124.
[15003]:ينظر: الرازي 13/125.
[15004]:ينظر: ديوان المتنبي 2/17. والفخر الرازي 13/126.
[15005]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (7/45).
[15006]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/74) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر. وذكره القرطبي في "تفسيره" (7/45) عن ابن عباس وضعفه.
[15007]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/314 ـ 315) وأحمد (5/178) من حديث أبي ذر. وذكره ابن كثير في "تفسيره" (3/312) وقال: هذا فيه انقطاع.
[15008]:ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" 4/210.
[15009]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (13/128) وكذلك أبو حيان في "البحر المحيط" (4/210).