اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآئِهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِينَ} (119)

قوله : " ومَا لَكُمْ " مُبْتَدأ وخبر ، وقوله : " ألاَّ تَأكُلوا " فيه قولان :

أحدهما : هو على حَذْف حَرْف الجرِّ ، أي : أيُّ شيء اسْتَقَرَّ في مَنْع الأكْل ممَّا ذكر اسْم اللَّه عليه ؛ وهو قول أبي إسْحَاق{[15065]} الزَّجَّاج ، فلما حُذِفَتْ " في " جَرَى القولان المَشْهُوران ، ولم يذكر الزَّمَخْشَرِيُّ غير هذا الوجه{[15066]} .

الثاني : أنَّها في محل نَصْبٍ على الحالِ ، والتَّقْدير : وأيُّ شَيْء لَكُم تَاركين للأكْل ، ويؤيِّد ذلك وُقوع الحالِ الصَّريحة في مِثْل هذا التَّركيب كَثِيراً ، نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] إلاَّ أن هذا مَرْدُود بِوَجْهَيْن :

أحدهما : أنَّ " أنْ " تُخَلِّص الفِعْل للاسْتِقْبَال ، فكيف يَقَعُ ما بَعْدَها حالاً ؟

والثاني : أنَّها مع ما بعدها مُؤوَّلة بالمصدر ، وهو أشْبَه بالمُضْمَرَات كما تقدَّم تحريره ، والحال إنَّما تكُون نكرة .

قال أبُو البقاء{[15067]} : إلاَّ أن يُقَدَّر حَذْفُ مُضاف ، فَيَجُوز ، أي : " وما لَكُم ذَوِي ألا تأكُلوا " وفي تَكَلُّف ، فمفعول " تَأكُلُوا " مَحْذوف بَقِيتْ صفَته ، تقديره : " شَيْئاً مما ذُكِر اسْمُ اللَّه " ويجُوز ألاَ يُراد مَفْعُول ، بل المُراد : ومَا لكُم ألا يقع منكم الأكْل ، وتكون " مِنْ " لابْتِدَاء الغَاية ، أي : أن لا تَبْتَدِئُوا بالأكْل من المَذْكُور عليه اسم اللَّه ، وزُعِم ، أنَّ " لاَ " مَزِيدة ، وهذا فَاسِدٌ ؛ إذا لا داعِي لِزيَادتها .

قوله : " وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم " قرأ{[15068]} ابْنُ كَثِير ، وأبُو عَمْرو ، وابنُ عَامِر : ببنائهما للمفعُول : ونافع ، وحفصٌ عن عاصم : ببنَائِهَما للفاعل ، وحمزة ، والكسَائِيُّ ، وأبُو بكر عن عاصم{[15069]} : ببناء الأوَّل للفاعل ، وبناء الثّانِي للمَفْعُول ، ولم يأتي عكس هذه ، وقرأ عطيَّة العُوفيُّ كقراءة الأخَويْن ، إلاَّ أنَّه خفف الصَّاد من " فَصَّل " والقَائِم مقام الفاعل : هو المَوْصُول ، وعائده من قوله : " حرَّم عَلَيْكُم " . والفَاعِل في قراءة مَنْ بَنَى للفَاعِل ضمير اللَّه -تعالى- ، والجُمْلَة في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ .

فصل في المراد من الآية

قوله : " فَصَّل لَكُم ما حرَّم عَلَيْكُم " قال أكثر المُفَسِّرين : هو المُراد من قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير } في أوَّل المائدة [ الآية : 3 ] ، وفيه إشْكَالٌ ، وهو أنَّ سُورة الأنْعَام مَكيَّة ، وسُورة المائدة من آخر ما أنْزَل اللَّه -تعالى- بالمدينة ، فقوله : " فصَّل " يَجِبُ أن يكُون ذلك المُفَصَّل متقدِّماً على هذا المُجْمَل ، والمَدَنِيّ متأخِّر عن المَكِيّ ، فيمتنع كونه مُتقدِّماً ، ولقَائِل أن يقول : المُفَصّل : هو قوله - تبارك وتعالى- بعد هذه الآية الكريمة : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [ الأنعام : 145 ] ، الآية ، وهي وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل ، إلا أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المُرَاد ، خُصُوصاً أن السُّورة نزلت دَفْعَة واحِدَة بإجْماع المُفَسِّرين على ما تقدَّم ، فيكون في حُكْم المُقارن .

قوله : " إلاَّ ما اضْطُرِرْتُم إليه " في الاسْتِثْنَاء وجهان :

أحدهما : أنَّه مُنْقَطِع ، قاله ابن عطيَّة والحُوفِي .

والثاني : أنه [ اسْتِثْنَاء ]{[15070]} متَّصِل .

قال أبو البقاء{[15071]} : " ما " في مَوْضِع نَصْبٍ على الاسْتِثْنَاء من الجِنْس من طريق المَعْنى ؛ لأنه وبَّخَهُم بترك الأكل مِمَّا سُمِّي عليه ، وذلك يَتَضَمّن الإباحة مُطْلَقاً .

قال شهاب الدِّين{[15072]} : الأوَّل أوْضَح والاتِّصال قلق المَعْنَى ، ثم قال : " وقوله : " وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم عليكم " أي : في حَالِ الاخْتِيَار ، وذلك حلالٌ حال الاضْطِرارِ " .

قوله : " وإنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّون " قرأ الكوفيُّون{[15073]} بضمِّ الياء ، وكذا الَّتِي في يُونس : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ } [ الآية : 88 ] والباقون : بالفَتْح ، وسيأتي لذلك نَظَائِر في إبْراهيم وغيرها ، والقراءتان واضِحَتَان ؛ فإنه يٌقال : ضلَّ في نَفْسَه ، وأضَلَّ غيره ، فالمَفْعُول مَحْذُوف على قراءة الكُوفيين : وهي أبْلَغ في الذَّمِّ ، فإنها تتضَّمن قُبْحَ فِعْلِهم ، حَيْث ضلوا في أنْفُسِهِم ، وأضَلُّوا غيرهم ؛ كقوله - تعالى- : { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] .

قيل المُراد بِه : عمرو بن لُحَيّ فمن دُونه من المشركين الَّذين اتخذوا البَحَائِر والسَّوَائِب وقراءة الفَتح لا تُحوِجُ إلى حذف ، فرجَّحها بَعْضُهم بهذا وأيضاً : فإنهم أجْمَعُوا على الفَتْح في " ص " عند قوله : { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله } [ 26 ] .

وقوله : " بِأهْوَائِهِم " متعلِّق ب " يَضِلُّونَ " والباءُ سَبَبيَّة ، أي : اتِّباعهم أهْواءَهم ، وشهواتهم .

وقوله : " بغير عِلْم " متعلِّق بِمَحْذُوف ، لأنه حالٌ ، أي : يَضِلُّون مُصَاحِبِين للجَهْلِ ، أي : مُلْتَبِسين بغير علمٍ .

فصل في المراد بالآية

قيل : المُرَاد : عمرو بن لُحَيّ كما تقدَّم ؛ لأنَّه أول من غير دين إسماعيل .

وقال الزَّجَّاج{[15074]} : المراد منه الَّذِين يُحَلِّلُون المَيْتَة ، ويناظِرُونكم في إحلالها ، ويَحْتَجون عليهخا بقولهم لما أحَلَّ ما تذبحونه أنْتُم ، فَبأن يحلَّ ما يَذْبَحُه الله أوْلَى ، وكذلك كل ما يَضِلُّون فيه من عبادة الأوثان ، والطَّعن في نُبُوّة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما يتِّبِعُون فيه الهوى والشَّهوة [ بغير عِلْمن وهذه الآية تدلُّ على أن التقليد حَرَام ؛ لأنَّه قول بمحض الَوَى والشَّهوة ]{[15075]} ثم قال : " إنَّ رَبَّك هُوَ أعْلم بالمُهْتدين " أي : هو العالم بما في ضَمَائِرِهم من التَّعَدِّي ، وطلب نُصْرة البَاطِل ، والسَّعي في إخْفَاء الحقِّ ، وإذا كان عَالِماً بأحْوَالهم وقَادِراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصُود منه التَّهْديد والتخويف .


[15065]:ينظر: معاني القرآن 2/314.
[15066]:ينظر: الكشاف 2/61.
[15067]:ينظر: الإملاء 1/259.
[15068]:ينظر: الدر المصون 3/168. إعراب القراءات 1/68، إتحاف فضلاء البشر 2/29.
[15069]:ينظر: الدر المصون 3/168، المحرر الوجيز 2/339.
[15070]:سقط في ب.
[15071]:ينظر: الإملاء 1/259.
[15072]:ينظر: الدر المصون 3/168.
[15073]:ينظر: الدر المصون 3/168، المحرر الوجيز 2/339.
[15074]:ينظر: معاني القرآن 13/136.
[15075]:سقط في أ.