قوله : " وأنَّ هَذَا " قرأ الأخوان : بكَسْر " إنّ " على الاسْتِئْنَاف{[15574]} أو يكون " أتل " بمعنى : أقول إن هذا ، و " فاتبعوه " : جملة معطوفة على الجُمْلَة قَبْلَها . وهذه الجملة الاستِنئْنَافيَّة تفيد التَّعْلِيل لقوله : " فاتَّبِعُوه " ، ولذلك استَشْهَد بها الزَّمَخْشَري{[15575]} على ذلك كما تقدَّم ، فعلى هذا يَكُون الكلام في الفاء في " فاتَّبِعُوهُ " ؛ كالكلام فِيهَا في قِرَاءة غيرها ، وستأتي .
وقرأ ابن{[15576]} عامر : " وأنْ " بفتح الهمزة وتخفيف النون ، والباقون{[15577]} بالفتح أيضاً والتَّشْدِيد .
فأمَّا قرءاة الجماعة ففيها أربعة وُجُوه :
أحدها : - وهو الظَّاهِر - : أنها في محلِّ نصب نسقاً على ما حرَّم ، أي : أتْل ما حرَّم ، وأتل أنْ هذا صِرَاطي مُسْتَقِيماً ، والمراد بالمُتَكَلِّم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه صِرَاطَه صِرَاط اللَّه - عز وجل - ، وهذا قول الفرَّاء{[15578]} - قال : " بفَتْح " أنْ " مع وُقُوع " أتْل " عليها ، يعني : أتْلُ عليْكم أنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً " .
والثاني : أنها مَنْصُوبة المحلِّ أيضاً نَسَقاً على " ألاَّ تُشْرِكُوا " إذا قُلْنَا بأنَّ " أنْ " المصدريَّة " ، وأنَّها وما بعدها بدل من " ما حرَّم " قاله الحُوفِيُّ .
الثالث : أنها على إسْقَاطِ حَرْف لام العِلَّة ، أي : ولأن هذا صِرَاطي مستَقيماً فاتبعوه ؛ كقوله – تعالى - : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] .
قال أبو عَلِيّ : من فتح " أنَّ " فَقِيَاس قول سيبويه - رحمه الله تعالى - أنه حملها على " فاتّبعُوه " والتقدير : ولأن هذا صِرَاطي مُسْتَقيِماً فاتِّبْعُوه ؛ كقوله : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ المؤمنون : 52 ] .
قال سيبويه{[15579]} : " ولأنَّ هَذِه أمَّتُكُم " ، وقال في قوله – تعالى - : و " أنَّ المساجِدَ لِلَّه " : ولأنَّ المَسَاجِد .
قال بعضهم : " وقد صرَّح بهذا اللام في نَظِير هذا التَّرْكيب ؛ كقوله – تعالى - : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتاء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ } [ قريش : 1-3 ] ، والفاء على هذا كَهِي في قولك : زيداً فَاضِرب ، وبزيد فَامْرُو ، وتقدم تَقْرِيره في البقرة{[15580]} .
قال الفَارسِي : قِيَاس قول سيبويه في فتح الهَمْزَة أن تكُون الفَاء زَائِدة كَهِي في " زَيْد فقَائم " .
قال شهاب الدِّين{[15581]} - رحمه الله تعالى - : " سيبويه لا يَجُوِّز زيادَتَها في مِثْل هذا الخَبَر ، وإنما أراد أبُو عَلِيِّ بنظيرها في مُجَرَّد الزِّيَادة وإن لم يَقُل به ، بل قال به غَيْره " .
والرابع : أنها في محلِّ جرِّ نسقاً على الضَّمِير المَجْرُور في " بِهِ " أي : " ذلكم وصَّاكُم به " وبأنَّ هذا هو قول الفراء{[15582]} أيضاً . وردّه أبو البقاء{[15583]} بوجْهَيْن :
أحدهما : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ .
الثاني : أنه يَصِير المَعْنَى : وصًّاكُم باسْتِقَامة الصِّراط ، وهذا فاسد .
قال شهاب الدِّين{[15584]} : والوجهان مردُودَان :
أما الأوَّل : فليس هذا من باب العَطْف على المُضْمَر من غير إعادة الجارِّ ؛ لأن الجارَّ هُنَا في قوَة المَنْطوق به ، وإنما حُذِفَ ؛ لأنَّه يَطَّرِد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطُولِهِما بالصِّلة ، ولذلك كان مَذْهبُ الجمهور أنها في محلِّ جرّ بعد حذفه لأنَّه كالموجُود ، ويدل على ما قلته ، ما قال الحُوفِيّ ؛ قال : " حُذِفت البَاء لِطُول الصِّلة وهي مُرَادة ، ولا يكون في هذا عَطْفُ مُظْهَر على مُضمر لإرادتها " .
وأمّا الثاني : فالمعنى صَحيح غير فَاسِد ؛ لأن مَعْنَى توصيتنا باسْتِقَامة [ الصِّراط ألاَّ نَتَعَاطى ما يُخْرِجُنا من الصّراطِ فوصيتنا باسْتِقَامَتِه ]{[15585]} مبالغة في اتِّباعِه .
وأما قراءة ابن عامر فقالوا : " أنْ " فيها مُخَفَّفَة من الثَّقِيلَة ، واسمها ضمير الأمْر والشأن ، أي : " وأنَّهُ " كقوله -تعالى- : { أنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] ، وقَوْل الأعْشى : البسيط ]
فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِموا *** أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ{[15586]}
وحينئذٍ ففيها الأرْبَعة أوْجُه المتقدّمة المَذْكُورة في المشدَّدة .
وقرأ ابن{[15587]} عامر وابن كثير : " سِرَاطِي " بالسِّين ، وحمزة : بين الصَّاد والزَّاي ، والباقون : بالصَّاد صافية ، وفي مُصْحَف عبد الله : " وهذا صِرَاطي " بدون " أنّ " ، و " هذا " صِرَاط ربِّك " .
قوله : { فاتّبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } .
أي : الطُّرُق المختَلِفة التي عدا هذا الطَّريق ؛ مثل اليَهُودِيَّة ، والنصرانية ، وسائر الملل ، وقيل : الأهْوَاء والبدع .
{ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } أي : فتقَعُوا في الضّلالاتِ .
روى ابن مَسْعُود - رضي الله عنهما - عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، أنه خَطَّ خَطاً عن يَمِينه ، وخطَّ عن شَمَالِهِ خُطُوطاً ، ثم قال : هذا سبيل اللَّهِ ، وهذه سُبُلٌ ، على كُلِّ سبيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُوا إلَيْهَا ، ثم تلا : " وأنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقيماً فاتِّبِعُوه " {[15588]} .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : هذه الآيَاتُ مُحْكَمَات ، لم يَنْسِخْهُنَّ شيء من جَمِيع الكُتُب ، من عَمِل بِهِنَّ ، دخل الجنَّة ، ومن تركَهُنَّ ، دخل النار{[15589]} .
قوله : " فتفَرَّق " منصوب بإضمار " أنْ " بعد الفَاءِ في جواب النَّهْي ، والجُمْهُورُ{[15590]} على " فَتَفَرَّق " بتاء خَفِيفَة ، والبزِّيُّ بتشْدِيدهَا{[15591]} ، فمن خفَّف ، حذف إحْدى التَّاءَيْن ، ومن شدَّد أدْغم ؛ وتقدم هذا في { تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 80 ] .
و " بكم " : يجوز أن يكُون مَفْعُولاً به في المَعْنَى ، أي : فَيُفَرِّقُكُم ، ويجُوز أن تكون حالاً ، أي : وأنْتُم معها ؛ كقوله القَائِل في ذلك : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّريبَا{[15592]}
وختم هذه الآية بالتَّقْوى وهي اتِّقاء النَّارِ ؛ لمُنَاسَبَة الأمر باتِّباع الصِّراط ، فإن من اتّبعه وَقَى نَفْسَه من النَّارِ .
قال القُرْطُبيُّ{[15593]} في هذه الآية الكريمة : " وهذه آيَةٌ عَظِيمَةٌ عطفها على ما تقدَّم ، فإنه لمَّا نَهَى وأمر حَذَّر هنا عن اتِّبَاع غَيْر سَبِيله ، فأمر فيها باتِّباع طَريقه " .
" مستقيماً " : نصْب على الحَالِ ، ومعناه : مُسْتَوياً قَائِماً لا اعْوجَاج فيه ، وقد بَيَّنه على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، ونشأت منه طُرُقٌ ، فمن سلك الجَادّة نجا ، ومن خرج إلى تلك الطُّرُق أفضت به إلى النَّارِ . قال – تعالى - : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } أي : تميل .
روى ابن مَسْعُود - رضي الله عنهما - قال : " خَطَّ لنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً خَطّاً ، ثم قال : هذا سَبيلُ اللَّه ، ثم خَط خُطُوطاً عن يَمِينه وشِمَاله ، ثم قال : هذه سُبل ، على كل سَبيلٍ منها شَيْطَان يَدْعُو إليها ، ثم قرأ هذه الآية الكريمة " {[15594]} .
وأخرجه ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطًّا وخط خطيب عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال : هذا سبيل الله - ثم تلا هذه الآية - { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السّبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }{[15595]} .
وهذه السُّبُل في اليَهُوديَّة ، والنَّصْرَانية ، والمجُوسيَّة ، وسائر أهل المِلَل والبِدَع والضَّلالاتِ ، من أهل الأهْواءِ والشُّذُوذِ في الفُرُوع ، وغير ذلك أهْلِ التَّعَمُّق في الجدل والخوض في الكلام ، وهذه عرْضَة للزَّلَل . قاله ابن عطية{[15596]} .