اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ} (154)

أصل " ثُمَّ " : المُهلة في الزمان ، وقد تأتي للمُهْلة في الإخبار .

وقال الزَّجَّاج{[15597]} : وهو مَعْطُوف على " أتْلُ " تقديره : أتْلُ ما حرَّم ثم أتْلُ ما آتيْنَا .

وقيل : هو مَعْطُوف على " قَلْ " أي : على إضْمَار قل ، أي : ثم قل : آتينا .

وقيل : تقديره : ثم أخْبِرُكم آتَيْنا .

وقال الزمخشري{[15598]} : عطف على وصَّاكُم به " قال : " فإن قلت : كيف صَحَّ عطفه عليه ب " ثم " ، والإيتَاء قبل التَّوْصِيَة به بَدهْر طَويل ؟

قال شهاب الدين{[15599]} : هذه التَّوصية قديمة لم يَزلْ تتواصها كل أمَّةٍ على لسان نبيِّها ، فكأنه قيل : ذلك وَصَّاكُم به يا بَنِي آدَمَ قَديماً وحَديثاً ، ثم أعْظَم من ذَلِك أنَّا آتَيْنَا موسى الكِتَاب .

وقيل : هو مَعْطُوف على ما تقدَّم قبل شَطْر السورة من قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } [ الأنعام : 84 ] .

وقال ابن عطية{[15600]} - رحمه الله تعالى - : " مهلتها في تَرْتَيب القَوْلِ الذي أمر به محمَّد صلى الله عليه وسلم كأنَّه قال : ثم مِمَّا وصَّيْنَاه أنا أتَيْنَا مُوسى الكتاب ، ويدعو إلى ذلك أن موسى - عليه السلام - مُتقدِّم بالزمان على محمَّد - عليه الصلاة والسلام- " .

وقال ابن القُشيري : " في الكلام حذف ، تقديره : ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن العظيم على محمد – عليه السلام - .

وقال أبُو حيَّان{[15601]} : " والذي ينبغي أن يُسْتَعْمَل للعَطْفِ كالواو من غير اعتِبَار مُهْلَةٍ ، وبذلك قال [ بَعْض ] النَّحْويِّين " .

قال شهاب الدّين{[15602]} : وهذه استراحة ، وأيضاً لا يلزم من انتفاء المهلة انتفاء الترتيب فكان ينبغي أن يقول من غير اعتبار ترتيب ولا مهلة على أن الفرض في هذه الآية عدم الترتيب في الزمان .

قوله : " تَمَاماً " يجوز فيه خَمْسَة أوْجُه :

أحدها : أنَّه مفعول من أجْلِهِ ، أي : لأجْل تمامِ نِعْمَتِنَا .

الثاني : أنَّه حالٌ من الكِتَاب ، أي : حَالَ كَوْنه تَمَاماً .

الثالث : أنَّه نَصْب على المصدرِ ؛ لأنَّه بمعنى : آتيناهُ إيتاء تمامٍ ، لا نقصان .

الرابع : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : مُتِمِّين .

الخامس : أنَّه مصدرٌ مَنْصُوب بفِعْل مُقَدَّر من لفظه ، ويكون مصدراً على حَذْف الزَّوائِد ، والتقدير : أتَممْنَاهُ إتْمَاماً ، و " على الذي " مُتعلِّق ب " تماماً " أو بمحذُوف على أنَّه صِفَة ، هذا إذا لم يُجْعَلْ مصدراً مؤكَّداً ، فإن جُعِلَ ، تعيّن جعلُه صِفَة .

و " أحسن " فيه وجهان :

أظهرهما : أنه فِعْلٌ ماض واقعٌ صلةً للموصول ، وفاعله مُضْمَرٌ يعود على مُوسى- عليه الصلاة والسلام - أي : تماماً على الذي أحْسَن ؛ فيكون الذي عبارةٌ عن مُوسَى .

وقال أبو عبيدة : على كُلِّ من أحْسَن ، أي : أتممنا فَضِيلَة مُوسَى - عليه الصلاة والسلام- بالكتاب على المُحْسِنين ، أي : أظهرنا فضله عليهم .

وقيل : على المحسنين من قومه ، أي : على من أحسن من قومه ، وكان فيهم مُحْسنٌ ومُسِيءٌ ، وتدُلُّ عليه قِرَاءة ابن مَسْعُود : وعلى الذي أحْسَن .

وقيل : كُلُّ من أحسن ، أي : الذي أحْسَنَهُ موسى من العِلْم ، والحِكْمَة ، والإحْسَان في الطاعة والعِبَادة ، وتَبْلِيغ الرِّسَالة .

وقيل : " الذي " عِبَارةٌ عمّا عَمِلَهُ مُوسى - عليه الصلاة والسلام - وأتقنه ، أي : تماماً على الذي أحْسَنَهُ موسى - عليه الصلاة والسلام- .

والثاني : أنَّ " أحَسْن " اسمٌ على وَزْن أفْعَل ، ك " أفْضَل " و " أكْرَم " ، واستَغْنَى بِوَصْف الموصُول عن صِلَتِهِ ، وذلك أنَّ المَوْصُول متى وُصِف بِمَعْرِفَة ، نحو : " مَرَرتُ بالذي أخيك " ، أو بِمَا يُقارب المَعْرِفَة ، نحو : " مَررْت بالذي خَيْر مِنْكَ ، وبالذي أحْسَن منك " ، جاز ذلك ، واستغنى به عن صِلته ، وهو مَذْهَبُ الفرَّاء ، وأنشد قوله : [ الزجر ]

حتَّى إذَا كَانَا هُمَا اللَّذِين *** مِثْلَ الجَدِيليْن المُحَمْلَجَيْنِ{[15603]}

بنصب " مِثْلَ " على أنه صِفَةٌ ل " اللَّذِيْن " المنصُوب على خَبَر كان ، ويجُوز أن تكون " الَّذي " مصدريَّة ، و " أحْسَنَ " فعل ماضٍ صِلَتُها ، والتقدير : تماماً على إحْسَانِه ، أي : إحْسان الله -تعالى- إليه ، وإحْسَان مُوسَى إليهم ، وهُو رأي يُونُس والفراء ؛ كقوله : [ البسيط ]

فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ *** تَثْبِيتَ عِيسى ونَصراً كالَّذِي نُصِرُوا{[15604]}

وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذا .

وفتح نُون " أحْسَنَ " قراءة بالعامَّة{[15605]} ، وقرأ يَحْيَى بن يَعْمُر ، وابن أبِي إسْحَاق برفعها ، وفيها وجهان :

أظهرهما : أنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : على الذي هو أحْسَن ، فحذف العَائِد ، وإن لم تَطُل الصِّلَةُ ، فهي شَاذَّةٌ من جِهَة ذلك ، وقد تقدَّم بدلائله عِنْد قوله : { مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] ، فيمن رفع " بَعُوضَةٌ " .

الثاني : أن يكُون " الَّذِي " واقِهاً موقع الذين ، وأصلُ " أحْسن " : أحْسَنُوا بواو الضَّمير ، حُذِفَت الواوُ اجتِزَاءً بحركة ما قبلها ، قاله التبريزيُّ ؛ وأنشد في ذلك فقال : [ الوافر ]

فلَوْ أنَّ الأطِبَّا كَانُ حَوْلي *** وكان مَعَ الأطِبَّاءِ الأسَاة{[15606]}

قال الآخرُ في ذلك هذا البيت : [ الوافر ]

إذا مَا شَاءُ ضَرُّوا مَن أرَادُوا *** ولا يَألُوهُمُ أحَدٌ ضِرَارا{[15607]}

وقول الآخر في ذلك : [ الزجر ]

شَبُّوا على المَجْدِ وَشَابُوا واكتَهَلُ{[15608]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد اكْتَهَلُوا ، فحذف الواو ، وسكن الحَرْف قبلها ، وقد تقدَّم أبْيَاتٌ أخر كَهَذِهِ في غُضُون هذا الكتاب ، ولكن جَمَاهير النُّحَاة تَخُصُّ هذا بِضَرُورَة الشِّعر .

وقوله : " وتَفْصيلاً " وما عُطِفَ عليه ؛ مَنْصُوب على ما ذُكِرَ في " تَمَاماً " [ والمعنى : بياناً لكلِّ شيءٍ يحتاجُ إليه من شرائع الدِّين . و " هدىً ورحمةً " هذا في صِفَة السُّورة .

" لعلَّهُمْ بِلقَاءِ ربِّهم يُومِنُون " .

قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : " لكي يُؤمنوا بالبعث ، ويُصَدِّقُوا بالثُّوَاب والعِقَاب " {[15609]} ]{[15610]} .


[15597]:ينظر: معاني القرآن 2/336.
[15598]:ينظر: الكشاف 2/80.
[15599]:ينظر: الدر المصون 3/220.
[15600]:ينظر: المحرر الوجيز 2/362.
[15601]:ينظر: البحر المحيط 4/255.
[15602]:ينظر: الدر المصون 3/220.
[15603]:ينظر: معاني القرآن 1/365، الدرر 1/62 وخزانة الأدب 6/81، سر صناعة الإعراب 1/365، شرح المفصل 3/153، همع الهوامع 1/86 شرح الكافية الشافية 1/267، ابن يعيش 3/153 الدر المصون 3/220.
[15604]:البيت لعبد الله بن رواحة ينظر: ديوانه 94، شرح الكافية 1/266، العمدة لابن رشيق 1/210، الدر المصون 3/221.
[15605]:ينظر: المحتسب 1/234 إتحاف فضلاء البشر 2/38، الدر المصون 3/221.
[15606]:ينظر: الهمع 1/58، ابن يعيش 7/5، الإنصاف 1/385، البحر 4/256، الخزانة 5/229، مجالس ثعلب 1/88، الدر المصون 3/221.
[15607]:ينظر: الهمع 1/58، الإنصاف 1/386، معاني الفراء 1/91، المغني 2/552، الدرر 1/34، الدر المصون 3/221.
[15608]:ينظر: البحر 4/256، الدر المصون 3/221.
[15609]:ذكره البغوي في تفسيره 2/143.
[15610]:سقط في ب.