هذا استثناء مُفَرّغ أي : لا تَقَرَبُوه إلا بالخَصْلَة الحُسْنَى ، فيجُوزُ أن يَكُون حالاً ، وأن يَكُون نَعْتَ مَصْدَر ، وأتى بصيغة التَّفْضِيل ؛ تنبيهاً على أنَّه يتحرَّى في ذلك ، ويَفْعَل الأحْسَن ولا يَكْتَفي بالحَسَن .
قوله : " حَتَّى يَبْلُغ " هذه غاية من حَيْث المَعْنَى ، فإن المَعْنى : احْفَظُوا ماله حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ ، [ ولو جَعلْنَاه غاية للَّفْظِ ، كان التقدير : لا تَقْرَبُوه حتى يَبْلُغ ]{[15558]} فاقربوه ، ولَيْس ذلك مُرَاداً .
قال القرطبي{[15559]} : " وليس بُلُوغ الأشُدِّ مما يُبِيحُ به قُرْب ماله بغير الأحْسَن ؛ لأن الحُرْمَة في حقِّ البَالِغ ثابِتَةٌ ، وخصَّ اليتيم بالذِّكر ؛ لأن خَصِيمَهُ الله -تعالى- ، والمعنى : لا تَقْرَبُوا مال اليَتيم إلا بالَّتِي هي أحْسَن على الأبَدِ حَتِّى يَبْلُغ أشُدّه ، وفي الكلام حَذْف تقديره : فإذا بَلَغَ أشُدَّه وأنِس منه الرُّشْد ، فادْفَعُوا إليه مَاله " .
والأشُدُّ : اختلف النَّحْويُّون فيه على خمسة أوجه :
فقال الفرَّاء : " هو جمع لا وَاحِد له ، والأشُدُّ واحدُها " شَدٌّ " في القياس ، ولم أسْمَع لها بِوَاحدٍ " .
وقيل : هو مُفْرَدٌ لا جمع ، نقل ابن الأنْبَاري ذلك عن بعض أهْل اللّغَة ، وأنه بِمَنْزلة " الآنُك " ، ونقل أبو حيَّان عنه{[15560]} : أن هذا الوَجْه مُخْتَاره في آخرين ، ثم قال : " ولَيس بمختارٍ ؛ لفقدان أفْعُل في المُفْرَدَات وضعاً " .
وقيل : هو جَمْع " شدَّة " ، و " فِعْلَة " يُجْمَع على أفْعُل " ؛ كنِعْمَة وأنْعُم ، قال أبو الهَيْثَم ، وقال : و " كأن الهَاءَ في الشِّدَة والنِّعْمَة لم تكن في الحَرْف ، إذا كانت زَائِدَة ، وكان الأصلُ نِعْم وشِدّ فَجُمِعَا على " أفْعُل " ؛ كما قالوا : رِجْل وأرْجُل ، وقِدْح وأقْدُح ، وضِرْس وأضْرُس " .
وقيل : هو جمع شُدّ [ بضم الشِّين نقله ابن الأنْبَاري عن بعض البَصْرِيِّين ؛ قال : كقولك : هو وُدٌّ ، وهم أوُدٌّ ]{[15561]} .
وقيل : هو جمع شَدّ بفتحها ، وهو مُحْتَمل .
والمراد هُنَا ببلوغ الأشد : بُلُوغ الحُلُم في قَوْل الأكْثَرِ ؛ لأنه مَظِنَّة ذلك .
وقيل : هو مَبْلَغ الرِّجَال من الحِيلة والمَعْرِفة .
وقيل : هو مَبْلَغ خمسة عشر إلى ثلاثين .
وقيل : أن يبلغ ثلاثة وثلاثين .
وقيل : سِتِّين ، وهذه لا تَلِيق بهذه الآية ، إنما تليق بقوله – تعالى - : { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ الأحقاف : 15 ] ، وتقدم منه طرف في النساء .
والأشُدُّ مشتق من الشِّدَّة ؛ وهي القُوَّة والجلادة ، وأنشد الفرَّاء - رحمه الله تعالى - : [ البسيط ]
قَدْ سَادَ وهو فَتى حَتَّى إذَا بَلَغَتْ *** أشُدُّهُ وعَلاَ فِي الأمْرِ واجْتَمَعَا{[15562]}
وقال الآخرُ في ذلك : [ الكامل ]
عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارُ كأنَّمَا *** خُضِبَ البَنَانُ وَرَأسُهُ بِالعِظْلمِ{[15563]}
قوله : " وأوفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ " " الكيل والميزان " هما الآلة التي يُكال بها ويُوزَن ، وأصْل الكَيْل : المصْدَر ثم أطْلِق على الآلة ، و " الميزان " : مِفاعل من الوزن لهذه الآلةِ ؛ كالمِصْبَاح والمقياس لِمَا يُسْتَصْبَحُ به ، وما يُقاسُ به ، وأصل ميزان : مِوْازن فَفُعِلَ به ما فُعِلَ بِميقاتٍ ، وقد تقدم في البقرة{[15564]} .
و " بِالقِسْطِ " حال من فَاعِل " أوْفُوا " أي : أوْفُوهُمَا مقسطين ، أي : مُتَلَبِّسِين بالقِسْط ، ويجُوز أن يكون حالاً من المفعُول ، أي : أوْفُوا الكَيْل والميزان مُتَلَبِّسِين بالقِسْطِ ، أي : تَامِّين ، والقِسْط العدل .
وقال أبو البقاء{[15565]} : " والكيْل هنا مَصْدر في مَعْنَى المَكِيل ، وكذلك الميزان ، ويجُوز أن يكون فيه حَذْفُ مُضَافٍ ، تقديره : مَكِيل الكَيْلِ ومَوْزُونُ المِيزانِ " ، ولا حاجة إلى ما ادّعَاء من وُقُوع المصدر موقع اسْمِ المفعُول ، ولا من تقدير المضاف ؛ لأن المعنى صحيح بدُونهما ، وأيضاً ف " ميزان " ليس مصدراً ، إلا أنه يُعَضِّد قوله ما قاله الوَاحِديُّ ، فإنه قال : " والميزان ، أي : وزن الميزان ؛ لأن المُرَاد إتْمَام الوَزْن ، لا إتمام الميزان ؛ كما أنَّه قال : " وأوْفوا الكَيْل " ولم يقل المِكْيَال ، فهو من بابِ حَذْف المُضَافِ " انتهى .
والظَّاهر عدم الاحْتِيَاج إلى ذلك ، وكأنَّه لم يَعْرِف أن الكَيْل يُطْلَق على نَفْس المِكْيَال ، حتى يقول : " ولم يقل المكيال " .
قوله : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْسا } مُعْتَرض بين هذه الأوَامِر ، واعلم أنَّ كُلَّ شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتَمَّ ، يقال : درْهَم وافٍ وكيل وافٍ ، وأوْفَيْتُه حقّه ووفيتُه ، إذا أتممته ، وأوْفَى الكيل ، إذا أتَمَّهُ ولم يَنْقُص منه شَيْئاً ، وكذلك وَفَى المِيزَان .
وقوله : " بالقسط " أي : بالعَدْل لا بخْس ولا نُقْصَان فيه .
فإن قيل : " أوفُوا الكَيْل والمِيزَان " هو عين القِسْط ، فما فَائِدة التكرير ؟
فالجواب : أن اللَّه -تبارك وتعالى- أمر المُعْطِي بإيفاءِ ذي الحقّ حقَّه من غير نُقْصَانٍ ، وأمر صَاحِبَه أن يَأخُذ حقَّهُ من غير طلب زِيَادة ، ولما كان يَجُوز أن يَتَوَهَّم الإنْسَان أنه يَجِب على التَّحقِيق ، وذلك صَعْقبٌ شديدٌ في العَدْل ، أتْبَعَهُ الله -تعالى- بما يُزِيُل هذا التَّشْدِيد ، فقال : " لا نُكَلِّف نَفْساً إلاَّ وُسْعَها " ، أي : الوَاجب [ في إيفَاءِ ]{[15566]} الكيْل والوَزْنِ هو القَدْر المُمْكِن ، أمَّا التحقيق فغير وَاجِبٍ .
قال القرطبي{[15567]}- رحمها لله تعالى - : في مُوَطأ مالكٍ عن يَحْيَى بن سَعيد - رضي الله عنه - ؛ أنه بلغه عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - ؛ أنه قال : " ما ظَهَر الغُلُول في قَوْم قطّ إلا ألْقَى اللَّه في قُلُوبِهم الرُّعْب ؛ ولا فَشَا الزِّنَا في قَوْم إلاَّ كَثُر فيهم المَوْت ، ولا نَقَصَ قَوْم المِكْيَال والميزان إلا قطعَ عنْهُم الرِّزق ، ولا حَكَمَ قَوْم بغير الحقِّ إلا فَشَا فيهم الدَّم ، ولا قوم بالعهد إلا سُلِّطَ عليهم{[15568]} العَدُوّ " .
وقال ابن عبَّاس : إنكم مَعْشر الأعاجم قد وليتم أمْرَيْن بهما هلك من كان قبلكم ، الكَيْل والميزان
قال القاضي{[15569]} : " إذا كان الله - تعالى- قد خف على المُكَلَّف هذا التخفيف ، مع أنه ما هُو التَّضْيِيقُ مَقْدُورٌ له ، فكيف يَتَوهَّمُ متوَهِّمٌ أنه -تبارك وتعالى- يكلف الكَافِر الإيمان مع أنَّهُ لا قُدْرَة له عليه ؟ بل قالوا : إن الله -تعالى- يَخْلُقُ الكُفْر فيه ، ويُريده منه ويَحْكُم به عليه ، ويخلق فيه القُدْرَة الموجِبَة لذلك الكُفْر والدَّاعِية الموجِبَة له ، ثم يَنْهَاه عنه ، فهو -تعالى- لمًّا لم يُجَوِّز ذلك القَدْر من التَّشْديد والتَّضْييق على العَبْد ، وهو إيفاء الكَيْل والوَزْن على سبيل التَّحقيق ، فكيف يَجُوز أن يُضَيِّق على العَبْد مثل هذا التَّضْييق والتَّشْدِيد ؟ "
وجوابه : المُعَارضة بمَسْألة العِلْم والدَاعي .
قوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } .
حمله المُفَسِّرون{[15570]} على أدَاءِ الشَّهَادة والأمْر والنَّهي .
قال القاضي{[15571]} " وليس الأمْر كذلك ، بل يَدْخُل فيه كُلُّ ما يتصل بالقَوْل من الدَّعْوة إلى الدِّين ، وتَقْرير الدَّلائل عليه ، ويَدْخُل فيه أن يكُون الأمْر بالمَعْرُوف والنَّهِي عن المنكر وَاقِعاً على الوَجْه بالعَدْل من غير زِيَادة في الإيذَاء والإيحَاشِ ، ونُقْصَان عن القدر الواجب ، ويدخل فيه الحِكَايات التي يَذْكُرها الرَّجُل حتى لا يَزيد فيها ولا يَنْقُص عنها ، ومن جملتها تَبْلِيغ الرِّسالات النَّاسَ وحكم الحَاكِم ، ثم إنه -تبارك وتعالى- بيَّن أنه يَجِبُ أن يُسَوَّى فيه بين القَريب والبَعيد ، فقال : " ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى " ؛ لأن المَقْصُود منه طلب رضوان الله – تعالى - ، وذلك لا يَخْتَلف بالقُرْب والبُعْد ، ولو كان المقُولُ له والمَقول عليه ذَا قُرْبَة .
قوله : " وبِعَهْد اللَّهِ " يجُوزُ أن يكُون من بابِ إضافَةِ المصدر لفاعله ، أي : بما عَاهَدَكُم اللَّهُ عليه ، وأن يكُون [ مُضافاً لمفعُوله ، أي : بما عاهدتم اللَّه عليه ؛ كقوله : { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] ، { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } [ الفتح : 10 ] وأن تكون ]{[15572]} الإضافة لمجرد البيان ، أُضَيفَ إلى اللَّه -تعالى- من حَيْثُ إنه الآمِرِ بِحِفْظِهِ والمراد به العَهْد الواقع بين الآيَتَيْن .
فإن قيل : ما السَّبَبُ في أن خَتْمَ الآية الكريمة بقوله : " تَذَكَّرُون " ، وخاتمة الأولى " تَعْقِلُونَ " .
فالجواب لأن الأربعة قَبْلَها خَفِيَّة ، تحتاج إلى إعمال فِكْر ونظر ، حتى يقف مُتَعاطيها على العَدْل ، فناسبها التذكير ، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء فإنها ظاهرة تعقلها وتَفْهَمُها ؛ فلذلك ختمتْ بالفعل .
" تَذَكرُون " حيث وَقَع ، يقرؤه الأخوان وعَاصِم في رواية حَفْصِ بالتَّخْفِيف ، والباقون بالتَّشْدِيد{[15573]} ، والأصْل : " تَتَذَكِّرُون " ، فمن خَفَّف ، حذف إحْدى التَّاءَيْن ، وهل هِي تاءُ المُضارعة أو تاء التَّفْعُل ؟ خلاف مَشْهُور ، ومن ثقَّل ، أدْغَم التَّاء في الدَّال .