لمّا بيّن أنَّهُ إنَّما أنْزَل الكتاب إزالةً للعُذْرِ ، وإزاحَةً للعِلَّة ؛ بيَّن أنَّهُم لا يُؤمِنُون ألْبَتَّةَ ، وشرح أحْوَالاً تُوجِب اليَأسَ عن دُخُولهم في الإيمان ، فقال - سبحانه وتعالى- : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } أي : بالعذاب ، و عند المَوْت لقبض أْروَاحِهمِ ، ونَظير هذه الآية في سُورة البقرة : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام } [ البقرة : 210 ] .
و " هل " استفهام ، معناه : النَّفْي ، ومعنى " ينظرون " : ينتظرون ، والتقدير : أنَّهم لا يُؤمِنُون بِكَ ، إلاَّ إذا جَاءَهُم أحَدُ هذه الأمُور الثلاثة .
قوله : " أو يَأتِي رَبُّكَ " : تقدَّم أنه حَذْفِ مُضَاف .
وقرأ{[15624]} الأخوان : " إلا أن يأتِيهُم الملائِكَةُ " بياء منقُوطة من تحت ؛ لأن التأنيث مَحَازِيٌّ ، وهو نظير : { فَنَادَتْهُ الملاائكة } [ آل عمران : 39 ] .
وقرأ أبو العالية ، وابن سيرين : " يَوْم تَأتِي بَعْضُ " بالتأنيث ؛ كقوله تعالى : { تَلْتَقِطْهُ } [ يوسف : 10 ] .
فإن قيل : " أو يَأتِي ربُّكَ " هل يَدلُّ على جوازِ المجيء والغيبة على الله - تعالى- .
الأول : أن هذا حكاية عن الكُفَار ، واعتِقَاد الكَافِر ليس بِحُجَّة .
والثاني : أنَّ هذا مَجَازٌ ، ونظيرُه قولهُ – تعالى - : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } [ النحل : 26 ] .
والثالث : قيام الدَّلائل القاطِعَة على أنَّ المَجيء والغيْبَة على اللَّه مُحَال ، وأقْرَبُها قول إبراهيم- عليه الصلاة والسلام - في الرَّد على عَبدَة الكواكب : { لا أُحِبُّ الأفلين } [ الأنعام : 76 ] .
فإن قيل : قوله – تعالى - : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } لا يمكن حَمْلُه على إثْبَاتِ أثر من آثار قُدْرَته ؛ لأن على هذا التَّقْدِير يَصِيرُ هذا عَيْن قوله : { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } مكرَّراً ؛ فوجب حَمْلُه على أنَّ المُرادَ مِنْه : إتْيَان الرَّبِّ .
قلنا : الجوابُ المُعْتَمد : أنَّ هذا حكاية مَذْهب الكُفَّار ؛ فلا يَكُون حُجَّةً .
وقيل : يأتي ربُّك بلا كَيْف ؛ لِفَصْل القضاء يوْم القِيَامة ؛ لقوله -سبحانه وتعالى- : { وَجَاءَ رَبُّكَ والمَلك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] .
وقال ابن عباس- رضي الله عنهما - : " يَأتي أمْر ربِّك فيهم بالقَتْل أو غَيْره " {[15625]} ، وقيل : يَأتِي ربُّك بالعَذَابِ .
وقيل : هذا من المُتَشَابه الَّذِي لا يَعْلَمُ تَأوِيله إلاَّ اللَّه .
" أو يأتي بعضُ آيات ربِّك " : وهو المُعْجِزَات القَاهِرة .
قوله : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك } .
الجمهور على نصب " يَوْمَ " ، وناصِبهُ [ ما ] بَعْد " لاَ " ، وهذا على أحَد الأقوال الثلاثة في " لاَ " ، وهي أنَّها يتقدَّم مَعْمُول ما بَعْدَها عَلَيْها مُطْلَقاً ، ولا يتقدَّم مُطْلَقاً ، ويُفَصَّل في الثالث : بَيْن أن يَكُون جوابَ قَسم ، فَيَمْتَنِع ؛ أوْ لاَ ، فيجوز .
وقرأ{[15626]} زُهَيْر الفَرْقَبِيُّ : " يومُ " بالرَّفع ، وهو مُبْتَدأ ، وخَبَرُه الجُمْلَة بعده ، والعَائِد مِنْها إليه مَحْذُوف ، أي : لا تَنْفَع فيه .
وقرأ الجُمْهُور " يَنْفَعُ " بالياء من تحت ، وقرأ{[15627]} ابنُ سيرين : " تَنْفَع " بالتَّاء من فوق .
قال أبو حاتم : " ذَكَرُوا أنَّه عَلَط " .
قال شهاب الدِّين{[15628]} : لأنَّ الفِعْل مسندٌ لِمُذَكَّر ، وجوابُه : أنَّه لما اكْتَسَب بالإضافَة التَّأنيث ، أجْرِي عليه حُكْمُه ؛ كقوله : [ الطويل ]
وتَشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَد أذَعْتَهُ *** كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ{[15629]}
وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا أوَّل السُّورة ؛ وأنْشَد سيبويه : [ الطويل ]
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحُ تَسَفَّهَتْ *** أعالِيَهَا مضرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِم{[15630]}
وقيل : لأن الإيمان بِمَعْنى : العَقِيدة ؛ فهو كقولهم : " أتَتْهُ كِتَابي فاحْتَقَرَهَا " أي : صَحِيفَتِي ، ورِسَالَتِي .
قال النَّحَّاس{[15631]} : " في هذا شَيْء دَقِيقٌ ذكره سيبويه{[15632]} : وذلك أن الإيمان ، والنَّفْس كلٌّ مُشْتَمِلٌ على الآخَر ، فأنَّث الإيمان ، إذ هو من النَّفْسِ وبها " وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[15633]}
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ{[15634]} : " في هذه القراءة ، يكُون الإيمان مُضَافاً إلى ضَمِير المُؤنَّثِ الذي هو بَعْضُه ؛ كقوله : ذَهَبَتْ بَعْضُ أصابِعهِ " .
قال أبو حيَّان{[15635]} : " وهو غَلَطٌ ؛ لأن الإيمان لَيْس بَعْضاً من النَّفْس " .
قال شهاب الدِّين{[15636]} : وقد تقدَّم آنِفاً ما يَشْهَد لصحَّةِ هذه العِبَارة من كلام النَّحَّاس ، في قوله عن سيبويه : " وذلك أن الإيمان والنَّفْس كُلٌّ مِنْهُما مُشْتَمِلٌ على الآخَر ، فأنَّث الإيمان ، إذْ هُو من النَّفْس وبها " فلا فَرْق بين هَاتِيْن العِبَارَتَيْن ، أيْ : لا فَرْق بين أنْ يقول : هو منها وبها ، أو هو بعْضُها ، والمُرَاد في العِبَارتَيْن : المَجَاز .
أجمعُوا على أنَّ المقصُود بهذه الآية : عَلامة القيامة ، عن البراء بن عَازِب رضي الله عنه قال : " كُنَّا نَتَذَكر السَّاعة [ إذْ أشرف عَلَيْنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما تَتَذاكَرُون ؟
قُلْنَا : نَتَذاكَرُ السَّاعة ]{[15637]} ؟
قال : إنها لا تقُوم حتَّى تَرَوْا قبلها عشْر آيات : الدُّخان ، ودابَّة الأرْضِ ، وخسْفاً بالمشْرِق ، وخَسْفاً بالمغرِب ، وخسْفاً بجزيرَة العرب ، والدَّجّال ، وطُلُوع الشَّمس من مَغْرِبها ، ويأجُوج ومَأجُوج ، ونُزول عيسى - عليه السلام - ، ونارً تَخْرج من عَدَن " {[15638]} .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَقُوم السَّاعة حتى تَطْلُع الشَّمس من مَغْرِبها ؛ فإذا طلعت وَرَآهَا النَّاس ، آمنوا أجْمَعِين ، وذلك حين لا يَنْفَع نَفْساً إيمانُها لم تَكُن آمَنَتْ من قَبْلُ أو كَسَبت في إيمانِهَا خَيْراً " {[15639]} .
وروى أبُو مُوسَى الأشْعَريُّ - رضي الله عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " يَدُ اللَّه بُسْطَانٌ لِمسيء اللَّيْل ، ليتُوب بالنَّهَار ، ولمُسِيء النَّهَار ، ليتُوب باللَّيْل ، حتى تَطْلع الشَّمْس من مَغْرِبِهاَ " {[15640]} .
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " من تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبهَا تَابَ علَيْه " {[15641]} .
وعن زِرٍّ بن حبيش ، قال : أتَيْتُ صفوان بن العَسَّال المراديّ ؛ فذكر عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله جَعَل بالمَغْرِب بَاباً مَسِيرة عَرْضِة سَبْعُون عاماً ، لا يُغْلَقُ حتَّى تَطْلُع الشَّمْس من قبله " ، وذلك قَوْل الله - عزَّ وجلَّ - : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْرا }{[15642]} .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثٌ إذا خَرَجْن لَمْ يَنفع نَفساً إيمانُهَا لم تكن آمنَتْ من قَبْل أو كَسَبت في إيمانِهَا خَيْراً : الدجَّال ، والدَّابَّة ، وطُلُوع الشَّمْسِ من مَغْرِبها " {[15643]} .
قوله : { لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ } .
أحدها : أنَّها في محلِّ نَصْبٍ ؛ [ لأنها ] نَعْتٌ ل " نَفْساً " ، وفصل بالفَاعل ، وهُو " إيمانُها " بين الصِّفَة ومَوْصُوفها ، لأنَّه لَيْس بأجْنَبِيّ ، إذ قد اشْتَرك الموصُوف الَّذِي هو المفعُول والفاعل في العامل ، فعلى هذا يَجُوز : " ضَرَبَ هِنْداً غلامُهَا القُرشِيَّة " ، وقوله " أوْ كَسَبَتَ " عَطْف على " لَمْ تَكُن آمَنَتْ " .
وفي هذه الآية بُحُوثُ حَسَنَةٌ تتعلَّق بِعِلْم العربيَّة وعليْها تُبْنَى مَسَائل من " أصُول الدِّين " ، وذلك أنَّ المُعْتَزِليَّ يقول : " مُجَرَّد الإيمان الصَّحيح لا يَكْفِي ، بل لا بُد من انْضِمَام عمل يَقْتَرِن به ويُصَدِّقه " ، واستدلَّ بظاهِرِ هذه الآية ، وذلك كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " لَمْ تَكُن آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ " : صفة لقوله " نَفْساً " وقوله : " أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً " عُطِفَت على " آمَنَتْ " والمعنى : أنَّ أشْرَاط السَّاعَةِ إذا جاءت وهي آيات مُلْجِئَةٌ مُضْطَرَّةٌ ، ذهب أوَانُ التَّكلِيف عِنْدَها ؛ فلم يَنْفَعُ الإيمان حينئذٍ نَفْساً غيرَ مُقدِّمةٍ إيمانها قبل ظُهُور الآيَاتِ ، أو مُقَدِّمَة إيمانها غير كَاسِبَةٍ خيراً في إيمانها ؛ فلم يُفَرِّق كما ترى بين النَّفْس الكَافِرَة إذا آمنت في غَيْر وقت الإيمان ، وبَيْنَ النَّفْس التي آمَنَت في وقتِهِ ولم تكْسِبْ خيراً ، ليعلم أن قوله : { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } جمع بين قَرِينَتَيْن ، لا ينبغي أن تَنْفَكَّ إحدَاهما عن الآخْرَى حتى يَفُوزَ صَاحِبُها ويَسْعَد ، وإلاَّ فالشقوة والهلاك .
وقد أجاب بَعْضُ النَّاس هذا الظَّاهر : بأن المَعْنَى بالآية الكريمة : أنَّه إذا أتَى بَعْض الآيَات ، لا يَنْفَعُ نَفْساً كَافِرة إيمانُها الَّذِي أوْقَعَتْه إذ ذَلِك ، ولا يَنْفَع نَفْساً سبق إيمانها وما كَسَبَت فيه خَيْراً ، فقد علَّق نفْيَ نَفْع الإيمانِ بأحَدِ وَصْفِيْن : إمَّا نَفْيَ سَبْق الإيمان فقط ، وإمَّا سَبْقُه مع نَفْي كَسْب الخَيْر ، ومَفْهُومُه : أنَّه يَنْفَع الإيمان السَّابق وَحْدَه أو السَّابِق ومعهُ الخَيْر ، ومَفْهُوم الصّفَة قَوِيٌّ . فَيُسْتدل بالآية لِمَذْهَب أهْل السُّنَّة ، فقد قلبوا دَلِيلَهُم دليلاً عَلَيْهم .
وقد أجاب القَاضِي نَاصِر الدِّين بن المُنِير عن قول الزَّمخشري - رحمه الله – فقال : " قال أحْمَد : هو يَرُوم الاسْتِدلال على أنَّ الكافر والعَاصي في الخُلُود سواءٌ ، حيث سَوَّى في الآية بَيْنَهُما ؛ في عدم الانْتِفَاع بما يَسْتَدْرِكَانِهِ بعد ظُهُور الآيات ولا يتم ذلك ، فإنَّ هذا الكلام في البلاغة يُلَقَّبُ ب " اللَّفِّ " وأصلهُ : يَوْم يَأتِي بَعْض آيات ربِّك لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لم تكن مُؤمِنَة قبل إيمانِها بَعْدُ ، لا نَفْساً لَمْ تَكْسِب خَيْراً قبل ما تَكْسِبُه من الخَيْر بَعْدُ ، فَلَفَّ الكلامين ؛ فجعلهُمَا كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغة ، ويَظْهَرُ بذلك أنَّها لا تُخَالِفُ مذْهَب الحقِّ فلا يَنْفَعُ بَعْد ظُهُور الآياتِ اكتِسَاب الخَيْر ، وإن نَفَع الإيمان المُتقدِّم من الخُلُود ، فهي بالرِّد على مَذْهبه أوْلى من أنْ تَدلَّ له " .
الثاني : أن هذه الجُمْلَة في مَحَلِّ نَصب على الحالِ من الضَّمير المَجْرُور ، قاله أبو البقاء{[15644]} ، يعني : من " هَا " في إيمانِها .
الثالث : أن تكُون مُسْتَأنَفة . وبهذا بَدَأ أبو البقاء ، وثنَّى بالحالِ ، وجعل الوَصْف ضَعِيفاً ؛ كأنه استَشْعَر ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشري ، ففرَّ من جَعْلِها نَعْتاً ، وأبو حيَّان جعل{[15645]} الحال بَعِيداً ، والاسِتئْنَاف أبْعد منه .
ثم قال -تعالى- : { قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } وهذا وَعِيدٌ وتهديد .