مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

قوله تعالى { ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا غلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعكم ثم الله شهيد على ما يفعلون }

اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد فقال : { ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حفص عن عاصم { يحشرهم } بالياء والباقون بالنون .

المسألة الثانية : قوله : { كأن لم يلبثوا } في موضع الحال ، أي مشابهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار . وقوله : { يتعارفون } يجوز أن يكون متعلقا بيوم نحشرهم ، ويجوز أن يكون حالا بعد حال .

المسألة الثالثة : { كأن } هذه هي المخففة من الثقيلة . التقدير : كأنهم لم يلبثوا ، فخففت كقوله : وكأن قد .

المسألة الرابعة : قيل : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار وقيل في قبورهم ، والقرآن وارد بهذين الوجهين . قال تعالى : { كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } قال القاضي : والوجه الأول أولى لوجهين : أحدهما : أن حال المؤمنين كحال الكافرين في أنهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقت الحشر ، فيجب أن يحمل ذلك على أمر يختص بالكفار ، وهو أنهم لما لم ينتفعوا بعمرهم استقلوه ، والمؤمن لما انتفع بعمره فإنه لا يستقله . الثاني : أنه قال : { يتعارفون بينهم } لأن التعارف إنما يضاف إلى حال الحياة لا إلى حال الممات .

المسألة الخامسة : ذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوها : الأول : قال أبو مسلم : لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم البتة ، فكان وجود ذلك العمر كالعدم ، فلهذا السبب استقلوه ونظيره قوله تعالى : { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } الثاني : قال الأصم : قل ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة ، والإنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة . الثالث : أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد . الرابع : أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر . الخامس : المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا ، وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف . وأقول : تحقيق الكلام في هذا الباب ، أن عذاب الكافر مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإهانة والإذلال ، والإحساس بالمضرة أقوى من الإحساس باللذة بدليل أن أقوى اللذات هي لذات الوقاع ، والشعور بأم القولنج وغيره والعياذ بالله تعالى أقوى من الشعور بلذة الوقاع . وأيضا لذات الدنيا مع حساستها ما كانت خالصة ، بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة ، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات ، وأيضا إن لذات الدنيا ما حصلت إلا بعض أوقات الحياة الدنيوية ، وآلام الآخرة أبدية سرمدية لا تنقطع البتة . ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم ، مثل العالم الموجود .

إذا عرفت هذا فنقول : أنه متى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر . وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم ، فقوله : { كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } إشارة إلى ما ذكرناه من قلتها وحقارتها في جنب ما حصل من العذاب الشديد .

أما قوله : { يتعارفون بينهم } ففيه وجوه : الأول : يعرف بعضهم بعضا كما كانوا يعرفون في الدنيا . الثاني : يعرف بعضهم بعضا بما كانوا عليه من الخطأ والكفر ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب وتبرأ بعضهم من بعض .

فإن قيل : كيف توافق هذه الآية قوله : { ولا يسئل حميم حميما } والجواب عنه من وجهين :

الوجه الأول : أن المراد من هذه الآية أنهم يتعارفون بينهم يوبخ بعضهم بعضا ، فيقول : كل فريق للآخر أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح ، فهذا تعارف تقبيح وتعنيف وتباعد وتقاطع لا تعارف عطف وشفقة . وأما قوله تعالى : { ولا يسئل حميم حميما } فالمراد سؤال الرحمة والعطف .

والوجه الثاني : في الجواب حمل هاتين الآيتين على حالتين ، وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة ، فلذلك لا يسأل حميم حميما .

أما قوله تعالى : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } ففيه وجهان : الأول : أن يكون التقدير : ويوم يحشرهم حال كونهم متعارفين ، وحال كونهم قائلين { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } . الثاني : أن يكون { قد خسر الذين كذبوا } كلام الله ، فيكون هذا شهادة من الله عليهم بالخسران ، والمعنى : أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر ، لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني .

وأما قوله : { وما كانوا مهتدين } فالمراد أنهم ما اهتدوا إلى رعاية مصالح هذه التجارة ، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة ، فصاروا كمن رأى زجاجة حسنة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه ، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب .