مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (64)

وأما قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الآخرة } ففيه أقوال : الأول : المراد منه الرؤيا الصالحة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : « البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له » وعنه عليه الصلاة والسلام : « ذهبت النبوة وبقيت المبشرات » وعنه عليه الصلاة والسلام : « الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان ، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره » وعنه صلى الله عليه وسلم : « الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة » وعن ابن مسعود ، الرؤيا ثلاثة : الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل ، وحضور الشيطان ، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة . وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة ، فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءا من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رأيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي .

واعلم أنا إذا حملنا قوله : { لهم البشرى } على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضا يدل عليه ، وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله ، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله ، ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق ، وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم ، فإنه إذا نام يبقى كذلك ، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه ، فلهذا السبب قال : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } على سبيل الحصر والتخصيص .

القول الثاني : في تفسير البشرى ، أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن عن أبي ذر . قال ؟ قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس . فقال : « تلك عاجل بشرى المؤمن »

واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى ، وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره ، وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال ، صار محبوبا لكل أحد ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله ، مستغرق اللسان بذكر الله ، مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية الله ، فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب ، صارت الألسنة جارية بمدحه ، والقلوب مجبولة على حبه ، وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر ، كانت هذه المحبة أقوى ، وأيضا فنور معرفة الله مخدوم بالذات ، ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوما بالطبع ألا ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان ، ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة .

والقول الثالث : في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى : { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة } وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } وسلام الله عليهم كما قال : { سلام قولا من رب رحيم } ويندرج في هذا الباب ما ذكره الله في هذا الكتاب الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يلقون فيها من الأحوال السارة فكل ذلك من المبشرات .

والقول الرابع : إن ذلك عبارة عما بشر الله عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه . ودليله قوله : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان }

واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه ، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية ، ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة ، فيكون الكل داخلا فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله : { وفي الآخرة } ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء الله وشرح أحوالهم قال تعالى : { لا تبديل لكلمات الله } والمراد أنه لا خلف فيها ، والكلمة والقول سواء . ونظيره قوله : { ما يبدل القول لدى } وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد الله بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان } ثم بين تعالى أن : { ذلك هو الفوز العظيم } وهو كقوله تعالى : { وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا } ثم قال القاضي : قوله { لا تبديل لكلمات الله } يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديما . ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم الله تعالى لا يكون قديما وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه .