مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ} (18)

قوله تعالى { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ، ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز } .

اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها . وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعا باطلا ، وذلك هو الخسران الشديد . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في ارتفاع قوله : { مثل الذين } وجوه : الأول : قال سيبويه : التقدير : وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ، أو مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم ، وقوله : { كرماد } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم فقيل : أعمالهم كرماد . الثاني : قال الفراء : التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد فحذف المضاف اعتمادا على ذكره بعد المضاف إليه وهو قوله : { أعمالهم } ومثله قوله تعالى : { الذي أحسن كل شيء خلقه } أي خلق كل شيء ، وكذا قوله : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } المعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة . الثالث : أن يكون التقدير صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك صفة زيد عرضه مصون ، وماله مبذول . الرابع : أن تكون أعمالهم بدلا من قوله : { مثل الذين كفروا } والتقدير : مثل أعمالهم وقوله : { كرماد } هو الخبر . الخامس : أن يكون المثل صلة وتقديره : الذين كفروا أعمالهم .

المسألة الثانية : اعلم أن وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال ، هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر ، فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر ، ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه :

الوجه الأول : أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع ، وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم ، ولولا كفرهم لانتفعوا بها .

والوجه الثاني : أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيمانا وطريقا إلى الخلاص ، والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالا عليهم .

والوجه الثالث : أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين ، لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت ، والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضا وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى : { ذلك هو الضلال البعيد } .

المسألة الثالثة : قرئ الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم ، وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك : يوم ماطر وليلة ساكرة ، وإنما السكور لريحها قال الفراء : وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف ، وإن شئت قلت : في يوم عاصف الريح فحذف ذكر الريح لكونه مذكورا قبل ذلك ، وقرئ في يوم عاصف بالإضافة .

المسألة الرابعة : قوله : { لا يقدرون مما كسبوا على شيء } أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد ، وهذه الآية دالة على كون العبد مكتسبا لأفعاله .