مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ} (15)

ثم قال : { واستفتحوا } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : للاستفتاح ههنا معنيان : أحدهما : طلب الفتح بالنصرة ، فقوله : { واستفتحوا } أي واستنصروا الله على أعدائهم ، فهو كقوله : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } والثاني : الفتح الحكم والقضاء ، فقول ربنا { واستفتحوا } أي واستحكموا وسألوه القضاء بينهم ، وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } .

إذا عرفت هذا فنقول : كلا القولين ذكره المفسرون . أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل ، وذلك لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم : { قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } وقال موسى : { ربنا اطمس }الآية . وقال لوط : { رب انصرني على القوم المفسدين } وأما على القول الثالث : وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا ، ومنه قول كفار قريش : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } ، وكقول آخرين { ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } .

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : قوله : { واستفتحوا } معطوف على قوله : { فأوحى إليهم } وقرئ واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله : { لنهلكن } أي أوحى إليهم ربهم ، وقال لهم : { لنهلكن } وقال لهم { استفتحوا } .

ثم قال تعالى : { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : إن قلنا : المستفتحون هم الرسل ، كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا { وخاب كل جبار عنيد } وهم قومهم ؛ وإن قلنا : المستفتحون هم الكفرة ، فكان المعنى : أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل { وخاب كل جبار عنيد } منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل .

المسألة الثانية : الجبار ههنا المتكبر على طاعة الله وعبادته . ومنه قوله تعالى : { ولم يكن جبارا عصيا } قال أبو عبيدة عن الأحمر : يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة ، وحكى الزجاج : الجبرية والجبر بكسر الجيم والجبارة والجبرياء . قال الواحدي : فهي ثمان لغات في مصدر الجبار ، وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أمرا فأبت عليه فقال : " دعوها فإنها جبارة " أي مستكبرة ، وأما العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه ، قال النضر بن شميل : العنود الخلاف والتباعد والترك ، وقال غيره : أصله من العند وهو الناحية يقال : فلان يمشي عندا ، أي ناحية ، فمعنى عاند وعند . أخذ في ناحية معرضا ، وعاند فلان فلانا إذا جانبه وكان منه على ناحية .

إذا عرفت هذا فنقول : كونه جبارا متكبرا إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيدا إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق ، وهو كونه مجانبا عن الحق منحرفا عنه ، ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق ، كان خائبا عن كل الخيرات . خاسرا عن جميع أقسام السعادات .

واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جبارا عنيدا ، وصف كيفية عذابه بأمور : الأول : قوله : { من ورائه جهنم } وفيه إشكال وهو أن المراد : أمامه جهنم ، فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام ؟

وأجابوا عنه من وجوه : الأول : أن لفظ «وراء » اسم لما يوارى عنك ، وقدام وخلف متوار عنك ، فصح إطلاق لفظ «وراء » على كل واحد منهما . قال الشاعر :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراءه فرج قريب

ويقال أيضا : الموت وراء كل أحد . الثاني : قال أبو عبيدة وابن السكيت : الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام ، والسبب فيه أن كل ما كان خلفا فإنه يجوز أن ينقلب قداما وبالعكس ، فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام ، ومنه قوله تعالى : { وكان وراءهم ملك يأخذ } أي أمامهم ، ويقال : الموت من وراء الإنسان . الثاني : قال ابن الأنباري «وراء » بمعنى بعد . قال الشاعر :

وليس وراء الله للمرء مذهب *** . . .

أي وليس بعد الله مذهب .

إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم عليه بالخيبة في قوله : { وخاب كل جبار عنيد } .