مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

والسؤال الرابع : ما معنى يتجرعه ولا يكاد يسيغه .

الجواب : التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار ، ويقال : ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا وأساغه إساغة . واعلم أن ( يكاد ) فيه قولان :

القول الأول : أن نفيه إثبات ، وإثباته نفي ، فقوله : { ولا يكاد يسيغه } أي ويسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول : ما كدت أقوم ، أي قمت بعد إبطاء قال تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } يعني فعلوا بعد إبطاء ، والدليل على حصول الإساغة قوله تعالى : { يصهر به ما في بطونهم والجلود } ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة .

أيضا فإن قوله : { يتجرعه } يدل على أنهم أساغوا الشيء بعد الشيء فكيف يصح أن يقال بعده إنه يسيغه البتة .

والقول الثاني : أن كاد للمقاربة فقول : { لا يكاد } لنفي المقاربة يعني : ولم يقارب أن يسيغه فكيف يحصل الإساغة كقوله تعالى : { لم يكد يراها } أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها .

فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على حصول الإساغة ، فكيف الجمع بينه وبين هذا الوجه .

قلنا عنه جوابان : أحدهما : أن المعنى : ولا يسيغ جميعه كأنه يجرع البعض وما ساغ الجميع . الثاني : أن الدليل الذي ذكرتم إنما دل على وصول بعض ذلك الشراب إلى جوف الكافر ، إلا أن ذلك ليس بإساغة ، لأن الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق بقبول النفس واستطابة المشروب والكافر يتجرع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه ، أي لا يستطيبه ولا يشربه شربا بمرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة ، والله أعلم .

النوع الثالث : مما ذكره الله تعالى في وعيد هذا الكافر قوله : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } والمعنى : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ، ومع ذلك فإنه لا يموت وقيل من كل جزء من أجزاء جسده .

النوع الرابع : قوله : { ومن ورآئه عذاب غليظ } وفيه وجهان : الأول : أن المراد من العذاب الغليظ كونه دائما غير منقطع . الثاني : أنه في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله . قال المفضل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد ، والله أعلم .