مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا} (61)

ثم قال تعالى : { فلما بلغا مجمع بينهما } والمعنى فانطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما والضمير في قوله بينهما إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان ، الأول : مجمع بينهما أي مجمع البحرين وهو كأنه إشارة إلى ( قول ) موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أي فحقق ( الله ) ما قاله . والقول الثاني : أن المعنى فلما بلغ الموضع الذي يجتمع ( فيه ) موسى وصاحبه الذي كان يقصده لأن ذلك الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت هو الموضع الذي كان يسكنه الخضر أو يسكن بقربه ولأجل هذا المعنى لما رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت صار إليه وهو معنى حسن ، والمفسرون على القول الأول ، ثم قال تعالى : { نسيا حوتهما } وفيه مباحث :

البحث الأول : الروايات تدل على أنه تعالى بين لموسى عليه السلام أن هذا العالم موضعه مجمع البحرين إلا أنه تعالى جعل انقلاب الحوت حيا علامة على مسكنه المعين كمن يطلب إنسانا فيقال له : إن موضعه محلة كذا من الري فإذا انتهيت إلى المحلة فسل فلانا عن داره وأين ما ذهب بك فاتبعه فإنك تصل إليه فكذا ههنا قيل له إن موضعه مجمع البحرين فإذا وصلت إليه رأيت الحوت انقلب حيا وطفر إلى البحر ، فيحتمل أنه قيل له فهنالك موضعه ويحتمل أنه قيل له فاذهب على موافقة ذهاب ذلك الحوت فإنك تجده . إذا عرفت هذا فنقول : إن موسى وفتاه لما بلغا مجمع بينهما طفرت السمكة إلى البحر وسارت وفي كيفية طفرها روايات أيضا قيل إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت وقيل إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب في الماء وقيل انفجر ( ت ) هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر فهذا هو الكلام في صفة الحوت .

البحث الثاني : المراد من قوله : { نسيا حوتهما } أنهما نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة فلما جعل الله حصول هذه الحالة العجيبة دليلا على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى ؟ أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات القاهرة من موسى عليه السلام كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان . وعندي فيه جواب آخر وهو أن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على القلب والخاطر ، أما قوله : { فاتخذ سبيله في البحر سربا } ففيه وجوه . الأول : أن يكون التقدير سرب في البحر سربا إلا أنه أقيم قوله فاتخذ مقام قوله سرب والسرب هو الذهاب ومنه قوله : { وسارب بالنهار } . الثاني : أن الله تعالى أمسك إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق والكوة حتى سرى الحوت فيه .