الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا} (61)

{ لفتاه } لعبده . وفي الحديث : " ليقل أحدكم فتاي وفتاتي " ، ولا يقل : عبدي وأمتي . وقيل : هو يوشع بن نون . وإنما قيل : فتاه ؛ لأنه كان يخدمه ويتبعه . وقيل : كان يأخذ منه العلم .

فإن قلت : { لا أَبْرَحُ } إن كان بمعنى لا أزول - من برح المكان - فقد دلّ على الإقامة لا على السفر . وإن كان بمعنى : لا أزال ، فلا بدّ من الخبر ، قلت : هو بمعنى لا أزال ، وقد حذف الخبر ؛ لأنّ الحال والكلام معاً يدلان عليه . أمّا الحال فلأنها كانت حال سفر . وأمّا الكلام فلأن قوله : { حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } غاية مضروبة وتستدعي ما هي غاية له ، فلا بدّ أن يكون المعنى : لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين . ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى : لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر ، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم ، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم ، وهو وجه لطيف . ويجوز أن يكون . المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى : ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ ، كما تقول : لا أبرح المكان . ومجمع البحرين : المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام ، وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق . وقيل : طنجة . وقيل : أفريقية . ومن بدع التفاسير : أن البحرين موسى والخضر ، لأنهما كانا بحرين في العلم . وقرىء : «مجمع » بكسر الميم ، وهي في الشذوذ من يفعل ، كالمشرق والمطلع من يفعل { أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً } أو أسير زماناً طويلاً . والحقب ثمانون سنة . وروي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقرّوا بها بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكر قومه النعمة ، فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله وقال : إنه اصطفى نبيكم وكلمه . فقالوا له : قد علمنا هذا ، فأي الناس أعلم ؟ قال : أنا . فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إلى الله ، فأوحى إليه : بل أعلم منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخضر ، وكان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام ، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر ، وبقي إلى أيام موسى . وقيل : إنّ موسى سأل ربه : أيّ عبادك أحبّ إليك ؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني . قال : فأيّ عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال : فأيّ عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى ، أو تردّه عن ردى . فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه . قال : أعلم منك الخضر . قال : أين أطلبه ؟ قال : على الساحل عند الصخرة .

قال : يا ربِ ، كيف لي به ؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل ، فحيث فقدته فهو هناك . فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان ، فرقد موسى ، فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت ، فأخبره فتاه بوقوعه في البحر ، فأتيا الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوبه ، فسلم عليه موسى ، فقال : وأني بأرضنا السلام ، فعرّفه نفسه ، فقال : يا موسى ، أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا . فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر : ما ينقص علمي وعلمك من علم الله [ إلا ] مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي نسيا تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة . وقيل : نسي يوشع أن يقدّمه ، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء . وقيل : كان الحوت سمكة مملوحة . وقيل : إن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل ، فنزلا ليلة على شاطىء عين تسمى عين الحياة ، ونام موسى ، فلما أصاب السمكة برد الماء وروحه عاشت . وروي : أنهما أكلا منها . وقيل : توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء { سَرَباً } أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق ، وحصل منه في مثل السرب معجزة لموسى أو للخضر .