مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (121)

قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } اعلم أن في الآية مسائل :

المسألة الأولى : { الذين } موضعه رفع بالابتداء . و{ أولئك } ابتداء ثان و{ يؤمنون به } خبره .

المسألة الثانية : المراد بقوله : { الذين آتيناهم الكتاب } من هم فيه قولان :

القول الأول : أنهم المؤمنون الذين آتاهم الله القرآن واحتجوا عليه من وجوه . ( أحدها ) : أن قوله : { يتلونه حق تلاوته } حث وترغيب في تلاوة هذا الكتاب ، ومدح على تلك التلاوة ، والكتاب الذي هذا شأنه هو القرآن لا التوراة والإنجيل ، فإن قراءتهما غير جائزة . ( وثانيها ) : أن قوله تعالى : { أولئك يؤمنون به } يدل على أن الإيمان مقصور عليهم ، ولو كان المراد أهل الكتاب لما كان كذلك . ( وثالثها ) : قوله : { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } والكتاب الذي يليق به هذا الوصف هو القرآن .

( القول الثاني ) : أن المراد بالذين آتاهم الكتاب ، هم الذين آمنوا بالرسول من اليهود ، والدليل عليه أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب فلما ذم طريقتهم وحكى عنهم سوء أفعالهم ، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم ، بل تأمل التوراة وترك تحريفها وعرف منها صحة نبوة محمد عليه السلام .

أما قوله تعالى : { يتلونه حق تلاوته } فالتلاوة لها معنيان . ( أحدهما ) : القراءة . ( الثاني ) : الإتباع فعلا ، لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلا ، قال الله تعالى : { والقمر إذا تلاها } فالظاهر أنه يقع عليهما جميعا ، ويصح فيهما جميعا المبالغة لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الإتباع فلا يخل بشيء منه ، وكذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه ، والذين تأولوه على القراءة هم الذين اختلفوا على وجوه . ( فأولها ) : أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما . ( وثانيها ) : أنهم خضعوا عند تلاوته ، وخشعوا إذا قرؤا القرآن في صلاتهم وخلواتهم . ( وثالثها ) : أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه ، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه وفوضوه إلى الله سبحانه . ( ورابعها ) : يقرؤنه كما أنزل الله ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ولا يتأولونه على غير الحق . ( وخامسها ) : أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد ، وهو تعظيمها ، والانقياد لها لفظا ومعنى ، فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيرا لفوائد كلام الله تعالى والله أعلم .