اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (121)

قوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } رفع بالابتداء ، وفي خبره وجهان :

أحدهما : " يَتْلُونَهُ " ، وتكون الجملة من قوله : " أولئِكَ يُؤْمِنُونَ " : إما مستأنفة وهو الصحيح .

وإما حالاً على قول ضعيف تقدم مثله أول السورة .

والثاني : أن الخبر هو الجملة من قوله : " أولئِكَ يُؤْمِنُونَ " .

ويكون " يَتْلُونَهُ " في محلّ نصب على الحال إما من المفعول في " آتْينَاهُمْ " وإما من الكتاب ، وعلى كلا القولين فهي حال مقدرة ؛ لأن وقت الإيتاء لم يكونوا تالين ، ولا كان الكتاب متلوًّا .

وجوز الحوفي أن يكون " يتلونه " خبراً ، و " أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ " خبراً بعد خبر ، قال : مثل قولهم : " هذا حلو حامض " كأنه يريد جعل الخبرين في معنى خبر واحد ، هذا إن أريد ب " الذين " قوم مخصوصون .

وإن أريد بهم العموم ، كان " أولئِكَ يُؤْمِنُونَ " الخبر .

قال جماعة منهم ابن عطية رحمه الله وغيره و " يَتْلُونَهُ " حالاً يستغنى عنها ، وفيها الفائدة .

وقال أيضاً أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون " يَتْلُونَهُ " خبراً ؛ لئلا يلزم منه أنّ كل مؤمن يتلو الكتاب حَقَّ تلاوته بأي تفسير فسرت التلاوة قال أبو حيان : ونقول : ما لزم من الامتناع مِنْ جَعْلِهَا خبراً يلزم في جعلها حالاً ؛ لأنه ليس كل مؤمن على حال التلاوة بأي تفسير فسرت التلاوة .

قوله تعالى : " حَقَّ تِلاَوَتِهِ " فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه نصب على المصدر وأصله : " تلاوةً حقًّا " ثم قدم الوصف ، وأضيف إلى المصدر ، وصار نظير " ضربت شديد الضرب " أي : ضَرْباً شديداً . فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه .

الثاني : أنه حال من فاعل " يَتْلُونَهُ " أي : يتلونه محقين .

الثالث : أنه نعت مصدر محذوف .

وقال ابن عطية : و " حَقَّ " مصدر ، والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى " أفعل " ، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف ، إنما جازت هنا ؛ لأن تَعَرُّفَ التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم : رجل وَاحِدُ أُمِّه ونَسِيجُ وحده يعني : أنه في قوة " أفعل " التفضيل بمعنى أحقّ التلاوة ، وكأنه يرى أن إضافة " أفعل " غير محضة ، ولا حاجة إلى تقدير عامل فيه ؛ لأن ما قبله يطلبه . والضمير في " به " فيه أربعة أقوال :

أحدها وهو الظاهر : عوده على الكتاب .

الثاني : عوده على الرسول ، قالوا : " ولم يَجْرِ له ذكر لكنه معلوم " ، ولا حاجة إلى هذا الاعتذار ، فإنه مذكور في قوله : { أَرْسَلْنَاكَ } [ البقرة : 119 ] ، إلا أن فيه التفاتاً من خطاب إلى غيبة .

الثالث : أنه يعود على الله تعالى ، وفيه التفات أيضاً من ضمير المتكلّم المعظم في قوله : " أَرْسَلْنَاكَ " إلى الغيبة .

الرابع : قال ابن عطية : إنه يعود على " الهدى " وقرره بكلام حسن .

فصل فيمن نزلت فيهم هذه الآية

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أهل السَّفينة الذين كانوا مع جعفر بن أبي طالب ، وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من " الحبشة " ، وثمانية من رهبان " الشام " منهم بحيرى .

وقال الضحاك : هو من آمن من اليهود : عبد الله بن سلام ، وشعبة بن عمرو ، وتمام ابن يهوذا ، وأسيد وأسد ابنا كعب وابن تامين ، وعبد الله بن صوريا . دليل هذين التأويلين تقدم ذكر الكتاب .

وقال قتادة وعكرمة : هم المؤمنون عامة لقوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } وهذا حثّ وترغيب في تلاوة هذا الكتاب ، وهذا شأن القرآن ؛ لأن التوراة والإنجيل لا يجوز قراءتهما ، وأيضاً قوله : { يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وهذا الوصف لا يليق إلا بالقرآن .

والتلاوة لها معنيان :

أحدهما : الاتباع فعلاً ؛ لأن من اتبع غيره يقال : تلاه فعلاً ، قال تعالى :

{ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 2 ] .

والثاني : القراءة .

وفي حق التلاوة وجوه :

أحدها : أنهم يدبّروه ، فعملوا بموجبه [ حتى تمسّكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما ] .

وثانيها : أنهم خضعوا عند تلاوته .

وثالثها : أنهم عملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه ، وفوضوه إلى الله تعالى .

ورابعها : يقرءونه كما أنزله الله ، ولا يحرفونه ، ولا يتأولونه على غير الحق .

وخامسها : روي عن عمر رضي الله تعالى عنه هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوا ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا .

وسادسها : المراد أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه ؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد ، وهو تعظيمها ، والانقياد لها .