مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

قوله تعالى : { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها رغدا حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين }

اعلم أن هذا هو الإنعام الثامن ، وهذه الآية معطوفة على النعم المتقدمة لأنه تعالى كما بين نعمه عليهم بأن ظلل لهم من الغمام وأنزل [ عليهم ] من المن السلوى وهو من النعم العاجلة أتبعه بنعمه عليهم في باب الدين حيث أمرهم بما يمحو ذنوبهم وبين لهم طريق المخلص مما استوجبوه من العقوبة .

واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين :

النوع الأول : ما يتعلق بالتفسير فنقول : أما قوله تعالى : { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } فاعلم أنه أمر تكليف ، ويدل عليه وجهان : الأول : أنه تعالى أمر بدخول الباب سجدا ، وذلك فعل شاق فكان الأمر به تكليفا ودخول الباب سجدا مشروط بدخول القرية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فثبت أن الأمر بدخول القرية أمر تكليف لا أمر إباحة . الثاني : أن قوله : { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم } دليل على ما ذكرناه . أما القرية فظاهر القرآن لا يدل على عينها ، وإنما يرجع في ذلك إلى الأخبار ، وفيه أقوال : أحدها : وهو اختيار قتادة والربيع وأبي مسلم الأصفهاني أنها بيت المقدس ، واستدلوا عليه بقوله تعالى في سورة المائدة : { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } ، ولا شك أن المراد بالقرية في الآيتين واحد ، وثانيها : أنها نفس مصر ، وثالثها : وهو قول ابن عباس وأبي زيد إنها أريحاء وهي قريبة من بيت المقدس ، واحتج هؤلاء على أنه لا يجوز أن تكون تلك القرية بيت المقدس لأن الفاء في قوله تعالى : { فبدل الذين ظلموا } تقتضي التعقيب فوجب أن يكون ذلك التبديل وقع منهم عقيب هذا الأمر في حياة موسى ، لكن موسى مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس ، فثبت أنه ليس المراد من هذه القرية بيت المقدس . وأجاب الأولون بأنه ليس في هذه الآية : أنا قلنا ادخلوا هذه القرية على لسان موسى أو على لسان يوشع ، وإذا حملناه على لسان يوشع زال الإشكال . وأما قوله تعالى : { فكلوا منها حيث شئتم رغدا } فقد مر تفسيره في قصة آدم عليه السلام وهو أمر إباحة .

أما قوله تعالى : { وادخلوا الباب سجدا } ففيه بحثان .

الأول : اختلفوا في الباب على وجهين : أحدهما : وهو قول ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة إنه باب يدعى باب الحطة من بيت المقدس ، وثانيهما : حكى الأصم عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القرية ومدخلا إليها .

الثاني : اختلفوا في المراد بالسجود فقال الحسن أراد به نفس السجود الذي هو إلصاق الوجه بالأرض وهذا بعيد لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك ، ومنهم من حمله على غير السجود ، وهؤلاء ذكروا وجهين : الأول : رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المراد هو الركوع ، لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء ، وهذا بعيد لأنه لو كان ضيقا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعا فما كان يحتاج فيه إلى الأمر . الثاني : أراد به الخضوع وهو الأقرب ، لأنه لما تعذر حمله على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع ، لأنهم إذا أخذوا في التوبة فالتائب عن الذنب لابد أن يكون خاضعا مستكينا . أما قوله تعالى : { وقولوا حطة } ففيه وجوه : أحدها : وهو قول القاضي : المعنى أنه تعالى بعد أن أمرهم بدخول الباب على وجه الخضوع أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة ، وذلك لأن التوبة صفة القلب ، فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ، لأن التوبة لا تتم إلا به ، إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ، ولإزالة التهمة عن نفسه ، وكذلك من عرف بمذهب خطأ ، ثم تبين له الحق فإنه يلزمه أن يعرف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه ، لتزول عنه التهمة في الثبات على الباطل وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته ، فلهذا السبب ألزم الله تعالى بني إسرائيل مع الخضوع الذي هو صفة القلب أن يذكروا اللفظ الدال على تلك التوبة وهو قوله : { وقولوا حطة } فالحاصل أنه أمر القوم بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان ، وهذا الوجه أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق . ثانيها : قول الأصم : إن هذه اللفظة من ألفاظ أهل الكتاب أي لا يعرف معناها في العربية ، وثالثها : قال صاحب الكشاف ( حطة ) فعلة من الحط كالجلسة والركبة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله :

صبر جميل فكلانا مبتلي*** . . . .

والأصل صبرا على تقدير اصبر صبرا ، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب . ورابعها : قول أبي مسلم الأصفهاني معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها ، وزيف القاضي ذلك بأن قال : لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقا به ولكن قوله : { وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم } يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة ، ويمكن الجواب عنه بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجدا مع التواضع كان الغفران متعلقا به . وخامسها قول القفال : معناه اللهم حط عنا ذنوبنا فإنا إنما انحططنا لوجهك وإرادة التذلل لك ، فحط عنا ذنوبنا . فإن قال قائل : هل كان التكليف واردا بذكر هذه اللفظة بعينها أم لا ؟ قلنا روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها وهذا محتمل ولكن الأقرب خلافه لوجهين . أحدهما : أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بالعربية ، وثانيهما : وهو الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم والخضوع حتى أنهم لو قالوا مكان قولهم : { حطة } اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ، لأن المقصود من التوبة ، إما القلب وإما اللسان ، أما القلب فالندم ، وأما اللسان فذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها .

أما قوله تعالى : { نغفر لكم } فالكلام في المغفرة قد تقدم . ثم ههنا بحثان :

الأول : أن قوله : { نغفر لكم } ذكره الله تعالى في معرض الامتنان ، ولو كان قبول التوبة واجبا عقلا على ما تقوله المعتزلة لما كان الأمر كذلك ، بل كان أداء للواجب وأداء الواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان .

الثاني : ههنا قراءات . أحدها : قرأ أبو عمرو وابن المنادى بالنون وكسر الفاء . وثانيها : قرأ نافع بالياء وفتحها . وثالثها : قرأ الباقون من أهل المدينة وجبلة عن المفضل بالتاء وضمها وفتح الفاء ، ورابعها : قرأ الحسن وقتادة وأبو حيوة والجحدري بالياء وضمها وفتح الفاء . قال القفال : والمعنى في هذه القراءات كلها واحد ، لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت وإذا غفرت فإنما يغفرها الله ، والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث كقوله : { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } والمراد من الخطيئة الجنس لا الخطيئة الواحدة بالعدد . أما قوله تعالى : { خطاياكم } ففيه قراءات ، أحدها : قرأ الجحدري «خطيئتكم » بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة على واحدة . وثانيها : الأعمش «خطيئاتكم » بمدة وهمزة وألف بعد الهمزة قبل التاء وكسر التاء . وثالثها : الحسن كذلك إلا أنه يرفع التاء ، ورابعها : الكسائي خطاياكم بهمزة ساكنة بعد الطاء قبل الياء ، وخامسها : ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الياء وقبل الكاف . وسادسها : الكسائي بكسر الطاء والتاء ، والباقون بإمالة الياء فقط .

أما قوله تعالى : { وسنزيد المحسنين } فإما أن يكون المراد من المحسن من كان محسنا بالطاعة في هذا التكليف أو من كان محسنا بطاعات أخرى في سائر التكاليف . أما على التقدير الأول : فالزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا وأن تكون من منافع الدين . أما الاحتمال الأول : وهو أن تكون من منافع الدنيا ، فالمعنى أن من كان محسنا بهذه الطاعة فإنا نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية ، وأما الاحتمال الثاني : وهو أن تكون من منافع الآخرة ، فالمعنى أن من كان محسنا بهذه الطاعة والتوبة فإنا نغفر له خطاياه ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل كما قال :

{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } أي نجازيهم بالإحسان إحسانا وزيادة كما جعل الثواب للحسنة الواحدة عشرا ، وأكثر من ذلك ، وأما إن كان المراد من «المحسنين » من كان محسنا بطاعات أخرى بعد هذه التوبة ، فيكون المعنى أنا نجعل دخولكم الباب سجدا وقولكم حطة مؤثرا في غفران الذنوب ، ثم إذا أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى أعطيناكم الثواب على تلك الطاعات الزائدة ، وفي الآية تأويل آخر ، وهو أن المعنى من كان خاطئا غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ، ومن لم يكن خاطئا بل كان محسنا زدنا في إحسانه ، أي كتبنا تلك الطاعة في حسناته وزدناه زيادة منا فيها فتكون المغفرة للمؤمنين والزيادة للمطيعين .