مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَؤُاْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيۡكُمۡ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ مَّا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا ٱلۡأَوَّلِينَ} (24)

ثم إنه سبحانه حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام .

الشبهة الأولى : قولهم : { ما هذا إلا بشر مثلكم } وهذه الشبهة تحتمل وجهين : أحدهما : أن يقال إنه لما كان مساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض امتنع كونه رسولا لله ، لأن الرسول لابد وأن يكون عظيما عند الله تعالى وحبيبا له ، والحبيب لابد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والمعزة ، فلما فقدت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة . والثاني : أن يقال هذا الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور ، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلا إلا بادعاء النبوة ، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته ، فهذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خبرا عنهم { يريد أن يتفضل عليكم } أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله تعالى : { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } .

الشبهة الثانية : قولهم : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } وشرحه أن الله تعالى لو شاء إرشاد البشر لوجب أن يسلك الطريق الذي يكون أشد إفضاء إلى المقصود ، ومعلوم أن بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى هذا المقصود من بعثة البشر ، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم وكثرة علومهم ، فالخلق ينقادون إليهم ، ولا يشكون في رسالتهم ، فلما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا البتة .

الشبهة الثالثة : قولهم : { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } وقوله بهذا إشارة إلى نوح عليه السلام ، أو إلى ما كلمهم به من الحث على عبادة الله تعالى ، أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام ، أو بمثل هذا الذي يدعي وهو بشر أنه رسول الله ، وشرح هذه الشبهة أنهم كانوا أقواما لا يعولون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء ، فلما لم يجدوا في نبوة نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها . قال القاضي : يحتمل أن يريدوا بذلك كونه رسولا مبعوثا ، لأنه لا يمتنع فيما تقدم من زمان آبائهم أنه كان زمان فترة ، ويحتمل أن يريدوا بذلك دعاءهم إلى عبادة الله تعالى وحده ، لأن آباءهم كانوا على عبادة الأوثان .