مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَاذَا عَلَيۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِيمًا} (39)

ثم أنه تعالى عيرهم وبين سوء اختيارهم في ترك الإيمان فقال : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما } .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { وماذا عليهم } استفهام بمعنى الإنكار ، ويجوز أن يكون «ماذا » اسما واحدا ، فيكون المعنى : وأي الشيء عليهم ، ويجوز أن يكون «ذا » في معنى الذي ، ويكون «ما » وحدها اسما ، ويكون المعنى : وما الذي عليهم لو آمنوا .

المسألة الثانية : احتج القائلون بأن الإيمان يصح على سبيل التقليد بهذه الآية فقالوا : إن قوله تعالى : { وماذا عليهم لو آمنوا } مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة ، ولو كان الاستدلال معتبرا لكان في غاية الصعوبة ، فإنا نرى المستدلين تفرغ أعمارهم ولا يتم استدلالهم ، فدل هذا على أن التقليد كاف .

أجاب المتكلمون بأن الصعوبة في التفاصيل ، فأما الدلائل على سبيل الجملة فهي سهلة ، واعلم أن في هذا البحث غورا .

المسألة الثالثة : احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية وضربوا له أمثلة ، قال الجبائي : ولو كانوا غير قادرين لم يجز أن يقول الله ذلك ، كما لا يقال لمن هو في النار معذب : ماذا عليهم لو خرجوا منها وصاروا إلى الجنة ، وكما لا يقال للجائع الذي لا يقدر على الطعام : ماذا عليه لو أكل . وقال الكعبي : لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثم يقول : ماذا عليه لو آمن . كما لا يقال لمن أمرضه : ماذا عليه لو كان صحيحا ، ولا يقال للمرأة : ماذا عليها لو كانت رجلا ، وللقبيح : ماذا عليه لو كان جميلا ، وكما لا يحسن هذا القول من العاقل كذا لا يحسن من الله تعالى ، فبطل بهذا ما يقال : إنه وإن قبح من غيره ، لكنه يحسن منه لأن الملك ملكه . وقال القاضي عبد الجبار : إنه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الضيعة ويحبسه من حيث لا يتمكن من مفارقة الحبس ، ثم يقول له : ماذا عليك لو تصرفت في الضيعة ، وإذا كان من يذكر مثل هذا الكلام سفيها دل على أن ذلك غير جائز على الله تعالى ، فهذا جملة ما ذكروه من الأمثلة .

واعلم أن التمسك بطريقة المدح والذم والثواب والعقاب قد كثر للمعتزلة ، ومعارضتهم بمسألتي العلم والداعي قد كثرت ، فلا حاجة إلى الإعادة .

ثم قال تعالى : { وكان الله بهم عليما } والمعنى أن القصد إلى الرثاء إنما يكون باطنا غير ظاهر ، فبين تعالى أنه عليم ببواطن الأمور كما هو عليم بظواهرها ، فإن الإنسان متى اعتقد ذلك صار ذلك كالرادع له عن القبائح من أفعال القلوب : مثل داعية النفاق والرياء والسمعة .