مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (40)

قوله تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } .

اعلم أن تعلق هذه الآية هو بقوله تعالى : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الأخر وأنفقوا مما رزقهم الله } فكأنه قال : فإن الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ، فرغب بذلك في الإيمان والطاعة .

واعلم أن هذه الآية مشتملة على الوعد بأمور ثلاثة : الأول : قوله تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الذرة النملة الحمراء الصغيرة في قول أهل اللغة . وروي عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ، ثم قال : كل واحد من هذه الأشياء ذرة و { مثقال } مفعال من الثقل يقال : هذا على مثقال هذا ، أي وزن هذا ، ومعنى { مثقال ذرة } أي ما يكون وزنه وزن الذرة .

واعلم أن المراد من الآية أنه تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا ، ولكن الكلام خرج على أصغر ما يتعارفه الناس يدل عليه قوله تعالى : { إن الله لا يظلم الناس شيئا } .

المسألة الثانية : قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أنه تعالى ليس خالقا لأعمال العباد ، لأن من جملة تلك الأعمال ظلم بعضهم بعضا ، فلو كان موجد ذلك الظلم هو الله تعالى لكان الظالم هو الله ، وأيضا لو خلق الظلم في الظالم ، ولا قدرة لذلك الظالم على تحصيل ذلك الظلم عند عدمه ، ولا على دفعه بعد وجوده ، ثم إنه تعالى يقول لمن هذا شأنه وصفته : لم ظلمت ثم يعاقبه عليه ، كان هذا محض الظلم ، والآية دالة على كونه تعالى منزها عن الظلم .

والجواب : المعارضة بالعلم والداعي على ما سبق مرارا لا حد لها ، وقد ذكرنا أن استدلالات هؤلاء المعتزلة وإن كثرت وعظمت ، إلا أنها ترجع إلى حرف واحد ، وهو التمسك بالمدح والذم والثواب والعقاب ، والسؤال على هذا الحرف معين ، وهو المعارضة بالعلم والداعي ، فكلما أعادوا ذلك الاستدلال أعدنا عليهم هذا السؤال .

المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : الآية تدل على أنه قادر على الظلم لأنه تمدح بتركه ، ومن تمدح بترك فعل قبيح لم يصح منه ذلك التمدح ، إلا إذا كان هو قادرا عليه ، ألا ترى أن الزمن لا يصح منه أن يتمدح بأنه لا يذهب في الليالي إلى السرقة .

والجواب أنه تعالى تمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولم يلزم أن يصح ذلك عليه ، وتمدح بأنه لا تدركه الأبصار ، ولم يدل ذلك عند المعتزلة على أنه يصح أن تدركه الأبصار .

المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : الآية دالة على أن العبد يستحق الثواب على طاعته وأنه تعالى لو لم يثبه لكان ظالما ، لأنه تعالى بين في هذه الآية أنه لو لم يثبهم على أعمالهم لكان قد ظلمهم ، وهذا لا يصح إلا إذا كانوا مستحقين للثواب على أعمالهم .

والجواب : أنه تعالى وعدهم بالثواب على تلك الأفعال ، فلو لم يثبهم عليها لكان ذلك في صورة ظلم ، فلهذا أطلق عليه اسم الظلم ، والذي يدل على أن الظلم محال من الله ، أن الظلم مستلزم للجهل والحاجة عندكم ، وهما محالان على الله ، ومستلزم المحال محال ، والمحال غير مقدور . وأيضا الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير ، والحق سبحانه لا يتصرف إلا في ملك نفسه ، فيمتنع كونه ظالما . وأيضا : الظالم لا يكون إلها والشيء لا يصح إلا إذا كانت لوازمه صحيحة ، فلو صح منه الظلم لكان زوال إلهيته صحيحا ، ولو كان كذلك لكانت إلهيته جائزة الزوال ، وحينئذ يحتاج في حصول صفة الإلهية له إلى مخصص وفاعل ، وذلك على الله محال .

المسألة الخامسة : قالت المعتزلة : إن عقاب قطرة من الخمر يزيل ثواب الإيمان والطاعة مدة مائة سنة . وقال أصحابنا : هذا باطل ؛ لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة ، أزيد من عقاب شرب هذه القطرة ، فإسقاط ذلك الثواب العظيم بعقاب هذا القدر من المعصية ظلم ، وإنه منفي بهذه الآية .

المسألة السادسة : قال الجبائي : إن عقاب الكبيرة يحبط ثواب جملة الطاعات ، ولا ينحبط من ذلك العقاب شيء . وقال ابنه أبو هاشم : بل ينحبط . واعلم أن هذا المشروع صار حجة قوية لأصحابنا في بطلان القول بالإحباط فإنا نقول : لو انحبط ذلك الثواب لكان إما أن يحبط مثله من العقاب أو لا يحبط ، والقسمان باطلان . فالقول بالإحباط باطل . إنما قلنا إنه لا يجوز انحباط كل واحد منهما بالآخر ، لأنه إذا كان سبب عدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو حصل العدمان معا لحصل الوجدان معا ، ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون حاصلة مع المعلول ، وذلك محال . وإنما قلنا : إنه لا يجوز انحباط الطاعة بالمعصية مع أن المعصية لا تنحبط بالطاعة ، لأن تلك الطاعات لم ينتفع العبد بها البتة ، لا في جلب ثواب ، ولا في دفع عقاب وذلك ظلم ، وهو ينافي قوله تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } ولما بطل القسمان ثبت القول بفساد الإحباط على ما تقوله المعتزلة .

المسألة السابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المؤمنين يخرجون من النار إلى الجنة ، فقالوا : لا شك أن ثواب الإيمان ، والمداومة على التوحيد ، والإقرار بأنه هو الموصوف بصفات الجلال والإكرام ، والمواظبة على وضع الجبين على تراب العبودية مائة سنة : أعظم ثوابا من عقاب شرب الجرعة من الخمر ، فإذا حضر هذا الشارب يوم القيامة وأسقط عنه قدر عقاب هذا المعصية من ذلك الثواب العظيم فضل له من الثواب قدر عظيم ، فإذا أدخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب ، فلو بقي هناك لكان ذلك ظلما وهو باطل ، فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنة .

النوع الثاني : من الأمور التي اشتملت عليها هذه الآية :

قوله تعالى : { وإن تك حسنة يضاعفها } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير { حسنة } بالرفع على تقديره «كان » التامة ، والمعنى : وإن حدثت حسنة ، أو وقعت حسنة ، والباقون بالنصب على تقدير «كان » الناقصة والتقدير : وإن تك زنة الذرة حسنة . وقرأ ابن كثير وابن عامر { يضعفها } بالتشديد من غير ألف من التضعيف ، والباقون { يضاعفها } بالألف والتخفيف من المضاعفة .

المسألة الثانية : تك : أصله من «كان يكون » وأصله «تكون » سقطت الضمة للجزم ، وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار «تكن » ثم حذفوا النون أيضا لأنها ساكنة . وهي تشبه حروف اللين ، وحروف اللين إذا وقعت طرفا سقطت للجزم ، كقولك : لم أدر ، أي لا أدري وجاء القرآن بالحذف والإثبات ، أما الحذف فههنا ، وأما الإثبات ، فكقوله : { إن يكن غنيا أو فقيرا } .

المسألة الثالثة : أن الله تعالى بين بقوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } أنه لا يبخسهم حقهم أصلا ، وبين بهذه الآية أن الله تعالى يزيدهم على استحقاقهم .

واعلم أن المراد من هذه المضاعفة ليس هو المضاعفة في المدة ، لأن مدة الثواب غير متناهية ، وتضعيف غير المتناهي محال ، بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار : مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب ، فيجعله عشرين جزءا ، أو ثلاثين جزءا ، أو أزيد . روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين : هذا فلان ابن فلان ، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ، ثم يقال له : أعط هؤلاء حقوقهم ، فيقول : يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فأن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته . مصداق ذلك في كتاب الله تعالى : { وإن تك حسنة يضاعفها } وقال الحسن : قوله : { وإن تك حسنة يضاعفها } هذا أحب إلى العلماء مما لو قال : في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة ، لأن ذلك الكلام يكون مقداره معلوما أما على هذه العبارة فلا يعلم كمية ذلك التضعيف إلا الله تعالى ، وهو كقوله في ليلة القدر إنها خير من ألف شهر . وقال أبو عثمان النهدي : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ، فقدر الله أن ذهبت إلى مكة حاجا أو معتمرا فألفيته فقلت : بلغني عنك أنك تقول : إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة : لم أقل ذلك ، ولكن قلت : إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف ، ثم تلا هذه الآية وقال : إذا قال الله : { أجرا عظيما } فمن يقدر قدره .

النوع الثالث : من الأمور التي اشتملت هذه الآية عليها قوله تعالى : { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : لدن : بمعنى «عند » إلا أن «لدن » أكثر تمكينا ، يقول الرجل : عندي مال إذا كان ماله ببلد آخر ، ولا يقال : لدي مال ولا لدني ، إلا ما كان حاضرا .

المسألة الثانية : اعلم أنه لا بد من الفرق بين هذا وبين قوله : { وإن تك حسنة يضاعفها } والذي يحظر ببالي والعلم عند الله ، أن ذلك التضعيف يكون من جنس ذلك الثواب ، وأما هذا الأجر العظيم فلا يكون من جنس ذلك الثواب ، والظاهر أن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعد بها في الجنة ، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه ، فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية ، وعند الاستغراق في المحبة والمعرفة ، وإنما خص هذا النوع بقوله : { من لدنه } لأن هذا النوع من الغبطة والسعادة والبهجة والكمال ، لا ينال بالأعمال الجسدانية ، بل إنما ينال بما يودع الله في جوهر النفس القدسية من الإشراق والصفاء والنور ، وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادة الجسمانية ، وهذا الأجر العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية .