مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (11)

قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف } .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين : أحدهما : النسب ، والآخر العهد ، أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الإناث . وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة ، وأما العهد فمن وجهين : الأول : الحلف ، كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، فإذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت ، والثاني : التبني ، فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه ، وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة ، ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية ، ومن العلماء من قال : بل قررهم الله على ذلك فقال : { ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون } والمراد التوارث بالنسب . ثم قال : { والذين عقدت أيمانكم فئاتوهم نصيبهم } والمراد به التوارث بالعهد ، والأولون قالوا المراد بقوله : { والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ليس المراد منه النصيب من المال ، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة ، فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية .

وأما أسباب التوارث في الإسلام ، فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني ، وزاد فيه أمرين آخرين : أحدهما : الهجرة ، فكان المهاجر يرث من المهاجر . وإن كان أجنبيا عنه ، إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة ، ولا يرثه غير المهاجر ، وإن كان من أقاربه . والثاني : المؤاخاة ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم ، وكان ذلك سببا للتوارث ، ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } والذي تقرر عليه دين الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة : النسب ، والنكاح ، والولاء .

المسألة الثانية : روى عطاء قال : استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا ، فأخذ الأخ المال كله ، فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ، وإن سعدا قتل وإن عمهما أخذ مالهما ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ارجعي فلعل الله سيقضي فيه » ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما وقال : «أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن وما بقي فهو لك » . فهذا أول ميراث قسم في الإسلام .

المسألة الثالثة : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان : الأول : أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام ، وما على الأولياء فيه ، بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالإرث ، ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث ، الثاني : أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالإجمال في قوله :

{ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } فذكر عقيب ذلك المجمل ، هذا المفصل فقال : { يوصيكم الله في أولادكم } .

المسألة الرابعة : قال القفال : قوله : { يوصيكم الله في أولادكم } أي يقول الله لكم قولا يوصلكم إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم ، وأصل الإيصاء هو الإيصال يقال : وصى يصي إذا وصل ، وأوصى يوصي إذا أوصل ، فإذا قيل : أوصاني فمعناه أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه ، وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج : معنى قوله ههنا : { يوصيكم } أي يفرض عليكم ، لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به } ولا شك في كون ذلك واجبا علينا .

فإن قيل : إنه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال ههنا : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } .

قلنا : لما كانت الوصية قولا ، لا جرم ذكر بعد قوله : { يوصيكم الله } خبرا مستأنفا وقال : { للذكر مثل حظ الأنثيين } ونظيره قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } أي قال الله : لهم مغفرة لأن الوعد قول .

المسألة الخامسة : اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " فاطمة بضعة مني " فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم .

واعلم أن للأولاد حال انفراد ، وحال اجتماع مع الوالدين : أما حال الانفراد فثلاثة ، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والإناث معا ، وإما أن يخلف الإناث فقط ، أو الذكور فقط .

القسم الأول : ما إذا خلف الذكران والإناث معا ، وقد بين الله الحكم فيه بقوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } .

واعلم أن هذا يفيد أحكاما : أحدهما : إذا خلف الميت ذكرا واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم ، وثانيها : إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الإناث كان لكل ذكر سهمان ، ولك أنثى سهم . وثالثها : إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم ، وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } يفيد هذه الأحكام الكثيرة .

القسم الثاني : ما إذا مات وخلف الإناث فقط : بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين ، فلهن الثلثان ، وإن كانت واحدة فلها النصف ، إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح . واختلفوا فيه ، فعن ابن عباس أنه قال : الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا ، وأما فرض البنتين فهو النصف ، واحتج عليه بأنه تعالى قال : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } وكلمة «إن » في اللغة للاشتراط ، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعدا ، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين .

والجواب من وجوه : الأول : أن هذا الكلام لازم على ابن عباس ، لأنه تعالى قال : { وإن كانت واحدة فلها النصف } فجعل حصول النصف مشروطا بكونها واحدة ، وذلك ينفي حصول النصف نصيبا للبنتين ، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله . الثاني : أنا لا نسلم أن كلمة «إن » تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ؛ ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين ، لأن الإجماع دل على أن نصيب اثنتين إما النصف ، وإما الثلثان ، وبتقدير أن يكون كلمة «إن » للاشتراط وجب القول بفسادهما ، فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا ، ولأنه تعالى قال : { وإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } وقال : { لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } ، ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات .

الوجه الثالث : في الجواب : هو أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير : فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان ، فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس ، وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان ، قالوا : وإنما عرفنا ذلك بوجوه : الأول : قال أبو مسلم الأصفهاني : عرفناه من قوله تعالى : { للذكر مثل حظ الأنثيين } وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى : { للذكر مثل حظ الأنثيين } فإذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين ، ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان ، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين ، الثاني : قال أبو بكر الرازي : إذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى : { للذكر مثل حظ الأنثيين } فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث ، فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى ، لأن الذكر أقوى من الأنثى . الثالث : أن قوله تعالى : { للذكر مثل حظ الأنثيين } يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة ، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص ، وإذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان ، لأنه لا قائل بالفرق ، والرابع : أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين ، وذلك يدل على ما قلناه . الخامس : أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ، ولم يذكر حكم اثنتين ، وقال في شرح ميراث الأخوات : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ، فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه ، فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك ، لأنهما أقرب إلى الميت من الأختين ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك ، لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى ، فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب ، فالوجوه الثلاثة الأول مستنبطة من الآية ، والرابع مأخوذ من السنة ، والخامس من القياس الجلي .

أما القسم الثالث : وهو إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول : أما الابن الواحد فإنه إذا انفرد أخذ كل المال ، وبيانه من وجوه : الأول من دلالة قوله تعالى : { للذكر مثل حظ الأنثيين } فإن هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين .

ثم قال تعالى في البنات : { وإن كانت واحدة فلها النصف } فلزم من مجموع هاتين الآيتين أن نصيب الابن المفرد جميع المال . الثاني : أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام : «ما أبقت السهام فلا ولى عصبة ذكر » ولا نزاع أن الابن عصبة ذكر ، ولما كان الابن آخذا لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل . الثالث : أن أقرب العصبات إلى الميت هو الابن ، وليس له بالإجماع قدر معين من الميراث ، فإذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له إن يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد ، فوجب أن يأخذ الكل .

فإن قيل : حظ الأنثيين هو الثلثان فقوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } يقتضي أن يكون حظ الذكر مطلقا هو الثلث ، وذلك ينفي أن يأخذ كل المال .

قلنا : المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد ، ويدل عليه وجهان : أحدهما : أن قوله : { يوصيكم الله في أولادكم } يقتضي حصول الأولاد ، وقوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك . والثاني : أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد ، هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط ، أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان ، فوجب قسمة المال بينهم بالسوية والله أعلم .

بقي في الآية سؤالان :

السؤال الأول : لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه : أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز ، فإن زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك . وأما ثانيا : فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها . وأما ثالثا : فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة ، وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر ، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة ، فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل .

والجواب عنه من وجوه : الأول : أن خروج المرأة أقل ، لأن زوجها ينفق عليها ، وخرج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته ، ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج . الثاني : أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية ، مثل صلاحية القضاء والإمامة ، وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، ومن كان كذلك وجب أن يكون الإنعام عليه أزيد . الثالث : أن المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة ، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر :

إن الفراغ والشباب والجده *** مفسدة للمرء أي مفسده

وقال تعالى : { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } وحال الرجل بخلاف ذلك . والرابع : أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، نحو بناء الرباطات ، وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل ، وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا ، والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك . الخامس : روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال : إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها ، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ، ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم ، فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها ، فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل .

السؤال الثاني : لم لم يقل : للأنثيين مثل حظ الذكر ، أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر ؟

والجواب من وجوه : الأول : لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى ، كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى . الثاني : أن قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام ، ولو قال : كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام ، فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل ، ولهذا قال : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } فذكر الإحسان مرتين والإساءة مرة واحدة . الثالث : أنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود هذه الآية ، فقيل : كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى ، فلا ينبغي له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية ، والله أعلم .

المسألة السادسة : لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة ، ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى : { يا بني آدم } وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام : { يا بنى إسرائيل } إلا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازا أو حقيقة .

فإن قلنا : إنه مجاز فنقول : ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا ، فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله : { يوصيكم الله في أولادكم } ولد الصلب وولد الابن معا .

واعلم أن الطريق في دفع هذا الإشكال أن يقال : إنا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس ، وأما إن أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول : الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا ، وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين ، إما عند عدم ولد الصلب رأسا ، وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث ، فحينئذ يقتسمون الباقي ، وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك ، وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا ، لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن ، وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب ، فالحاصل أن هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن ، وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحدا ، أما إذا قلنا : إن وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة ، فإن جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الإشكال ، لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لإفادة معنييه معا ، بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس . والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن ، فعلمنا أن لفظ الابن متواطئ بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال .

واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الأجداد والجدات ؟ ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى : { نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة ، فإن الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم .

المسألة السابعة : اعلم أن عموم قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } زعموا أنه مخصوص في صور أربعة : أحدها : أن الحر والعبد لا يتوارثان . وثانيها : أن القاتل على سبيل العمد لا يرث . وثالثها : أنه لا يتوارث أهل ملتين ، وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض ، ويتفرع عليه فرعان :

الفرع الأول : اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم ، أما المسلم فهل يرث من الكافر ؟ ذهب الأكثرون إلى أنه أيضا لا يرث ، وقال بعضهم : إنه يرث قال الشعبي : قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد ، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به ، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث ، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به ويقول : هكذا قضى أمير المؤمنين .

حجة الأولين عموم قوله عليه السلام : «لا يتوارث أهل ملتين » وحجة القول الثاني : ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «الإسلام يزيد ولا ينقص » ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } يقتضي توريث الكافر من المسلم ، والمسلم من الكافر ، إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام : «لا يتوارث أهل ملتين » لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية ، والخاص مقدم على العام فكذا ههنا قوله : «الإسلام يزيد ولا ينقص » أخص من قوله : «لا يتوارث أهل ملتين » فوجب تقديمه عليه ، بل هذا التخصيص أولى ، لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية ، والخبر الأول ليس كذلك ، وأقصى ما قيل في جوابه : أن قوله : «الإسلام يزيد ولا ينقص » ليس نصا في واقعة الميراث ، فوجب حمله على سائر الأحوال .

الفرع الثاني : المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل ، فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا على أنه لا يورث ، بل يكون لبيت المال ، أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان : قال الشافعي : لا يورث بل يكون لبيت المال ، وقال أبو حنيفة : يرثه ورثته من المسلمين ، حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام : «لا يتوارث أهل ملتين » على عموم قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين ، فوجب أن لا يحصل التوارث .

فإن قيل : لا يجوز أن يقال : إن المرتد زال ملكه في آخر الإسلام وانتقل إلى الوارث ، وعلى هذا التقدير فالمسلم إنما ورث عن المسلم لا عن الكافر .

قلنا : لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته ، والأول باطل ، ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } وهو بالإجماع باطل . والثاني : باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين ، وهو خلاف الخبر . ولا يبقى ههنا إلا أن يقال : إنه يرثه بعد موته مستندا إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه ، إلا أن القول بالاستناد باطل ، لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد ، فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي ، وذلك باطل في بداهة العقول ، وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد ، وقد أبطلناه ، والله أعلم .

الموضع الرابع : من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون ، والشيعة خالفوا فيه ، روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه ، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة » فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ، ثم إن الشيعة قالوا : بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا ، وبيانه من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه على خلاف قوله تعالى : حكاية عن زكريا عليه السلام { يرثني ويرث من آل يعقوب } وقوله تعالى : { وورث سليمان داوود } قالوا : ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة . بل يكون كسبا جديدا مبتدأ ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة ، وثانيها : أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين ، وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة ، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة ، وثالثها : يحتمل أن قوله : «ما تركناه صدقة » صلة لقوله : «لا نورث » والتقدير : أن الشيء الذي تركناه صدقة ، فذلك الشيء لا يورث .

فإن قيل : فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك .

قلنا : بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم ، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم .

والجواب : أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة ، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب إليه أبو بكر فسقط هذا السؤال ، والله أعلم .

المسألة الثامنة : من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } معناه للذكر منهم ، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم ، كقولك : السمن منوان بدرهم ، والله أعلم .

أما قوله تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن ، وقوله : { فوق اثنتين } يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان ، وأن يكون صفة لقوله : { نساء } أي نساء زائدات على اثنتين . وههنا سؤالات .

السؤال الأول : قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد ، لا لبيان حظ الأنثيين ، فكيف يحسن إرادته بقوله : { فإن كن نساء } وهو لبيان حظ الإناث .

والجواب من وجهين : الأول : أنا بينا أن قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان ، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } على معنى : فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد ، فلهن ما للثنتين وهو الثلثان ، ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت ، فثبت أن هذا العطف متناسب . الثاني : أنه قد تقدم ذكر الأنثيين ، فكفى هذا القول في حسن هذا العطف .

السؤال الثاني : هل يصح أن يكون الضميران في «كن » و«كانت » مبهمين ويكون «نساء » و«واحدة » تفسيرا لهما على أن «كان » تامة ؟

الجواب : ذكر صاحب «الكشاف » : أنه ليس ببعيد .

السؤال الثالث : النساء : جمع ، وأقل الجمع ثلاثة ، فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين ؟

الجواب : من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته ، ومن يقول : هو ثلاثة قال هذا للتأكيد ، كما في قوله : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } وقوله : { لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد } .

أما قوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } فنقول : قرأ نافع ( واحدة ) بالرفع ، والباقون بالنصب ، أما الرفع فعلى كان التامة ، والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله : { فإن كن نساء } والتقدير : فإن كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا ههنا ، التقدير : وإن كانت المتروكة واحدة ، وقرأ زيد بن علي : النصف ، بضم النون .

قوله تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } .

اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية ميراث الأولاد ذكر بعده ميراث الأبوين ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ الحسن ونعيم بن أبي ميسر { السدس } بالتخفيف وكذلك الربع و { الثمن } .

المسألة الثانية : اعلم أن للأبوين ثلاثة أحوال .

الحالة الأولى : أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية ، واعلم أنه لا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر والأنثى ، فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد ، أو أكثر من واحد ، فههنا الأبوان لكل واحد منهما السدس . وثانيها : أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر ، وههنا الحكم ما ذكرناه أيضا . وثالثها : أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فههنا للبنت النصف ، وللأم السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية . والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب ، وههنا سؤالات .

السؤال الأول : لا شك أن حق الوالدين على الإنسان أعظم من حق ولده عليه ، وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل ؟

والجواب عن هذا في نهاية الحسن والحكمة ، وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا ، أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق .

السؤال الثاني : الضمير في قوله : { ولأبويه } إلى ماذا يعود ؟

الجواب : أنه ضمير عن غير مذكور ، والمراد : ولأبوي الميت .

السؤال الثالث : ما المراد بالأبوين ؟

والجواب : هما الأب والأم ، والأصل في الأم أن يقال لها أبة ، فأبوان تثنية أب وأبة .

السؤال الرابع : كيف تركيب هذه الآية ؟ .

الجواب : قوله : { لكل واحد منهما } بدل من قوله : { لأبويه } بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه .

فإن قيل : فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس .

قلنا : لأن في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا ، والسدس مبتدأ وخبره : لأبويه ، والبدل متوسط بينهما للبيان .

قوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } .

وفي الآية مسألتان :

المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين ، وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد ، ولا يكون هناك وارث سواهما ، وهو المراد من قوله : { وورثه أبواه } فههنا للأم الثلث ، وذلك فرض لها ، والباقي للأب ، وذلك لأن قوله : { وورثه أبواه } ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما ، وإذا كان كذلك كان مجموع المال لهما ، فإذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب ، فههنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد ، ويتفرع على ما ذكرنا فرعان : الأول : أن الآية السابقة دلت على أن فرض الأب هو السدس ، وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه ههنا يأخذ السدس بالفريضة ، والنصف بالتعصيب . الثاني : لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب إذا انفرد أن يأخذ كل المال ، لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد ، هذا كله إذا لم يكن للميت وارث سوى الأبوين ، أما إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فذهب أكثر الصحابة إلى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي إلى الأم ، ويدفع الباقي إلى الأب ، وقال ابن عباس : يدفع إلى الزوج نصيبه ، وإلى الأم الثلث ، ويدفع الباقي إلى الأب ، وقال : لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي ، وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين ، وخالفه في الزوج والأبوين ، لأنه يفضي إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين ، وأما في الزوجة فإنه لا يفضي إلى ذلك ، وحجة الجمهور وجوه : الأول : أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين ، ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } وأيضا الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى :

{ وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } وأيضا الأم مع الأب كذلك ، لأنا بينا أنه إذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث ، وللأب الثلثان ، إذا ثبت هذا فنقول : إذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا ، للذكر مثل حظ الأنثيين . الثاني : أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال ، فإذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول ، الثالث : أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة ، فأشبه الوصية في قسمة الباقي ، الرابع : أن المرأة إذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف ، فلو دفعنا الثلث إلى الأم والسدس إلى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين ، وهذا خلاف قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } .

واعلم أن الوجوه الثلاثة الأول : يرجع حاصلها إلى تخصيص عموم القرآن بالقياس .

وأما الوجه الرابع : فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني .

المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي { فلأمه } بكسر الهمزة والميم وشرطوا في جواز هذه الكسرة أن يكون ما قبلها حرفا مكسورا أو ياء .

أما الأول : فكقوله : { في بطون أمهاتكم } .

وأما الثاني : فكقوله : { في أمها رسولا } وإذا لم يوجد هذا الشرط فليس إلا الضم كقوله : { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } وأما الباقون فإنهم قرؤا بضم الهمزة ، أما وجه من قرأ بالكسر قال الزجاج : إنهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله : { فلأمه } وذلك لأن اللام لشدة اتصالها بالأم صار المجموع كأنه كلمة واحدة ، وليس في كلام العرب فعل بكسر الفاء وضم العين ، فلا جرم جعلت الضمة كسرة ، وأما وجه من قرأ الهمزة بالضم فهو أتى بها على الأصل ، ولا يلزم منه استعمال فعل لأن اللام في حكم المنفصل ، والله أعلم .

قوله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } .

اعلم أن هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الأخوة ، والأخوات وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس ، واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون ، واختلفوا في الأختين ، فالأكثرون من الصحابة على القول بإثبات الحجب كما في الثلاثة ، وقال ابن عباس : لا يحجبان كما في حق الواحدة ، حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الأخوة ، ولفظ الأخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه ، فإذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب ، فوجب أن لا يحصل الحجب . روي أن ابن عباس قال لعثمان : بم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس ؟ وإنما قال الله تعالى : { فإن كان له إخوة } والأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار .

واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان ، وعثمان ما أنكره ، وهما كانا من صميم العرب ، ومن علماء اللسان ، فكان اتفاقهما حجة في ذلك .

واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين : الأول : أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه ، واحتجوا فيه بوجوه : أحدها : قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } ولا يكون للإنسان الواحد أكثر من قلب واحد ، وثانيها : قوله تعالى : { فإن كن نساء فوق اثنتين } والتقييد بقوله : فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحا للثنتين ، وثالثها : قوله : «الاثنان فما فوقهما جماعة » والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين ، إلا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة ، وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين ، وإنما الموجب لذلك هو القياس ، وتقريره أن نقول : الأختان يوجبان الحجب ، وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا ، إنما قلنا إن الأختين يحجبان ، وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث ، ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان ، وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث ، فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين ، كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة ، فثبت أن الأختين يحجبان ، وإذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين ، لأنه لا قائل بالفرق ، فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ، وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى ، فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع ، ويمكن أن يقال : لا يتمسك به على طريقة القياس ، بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم ، إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم ، واعلم أنه تأكد هذا بإجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس ، والأصح في أصول الفقه أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة ، والله أعلم .

المسألة الثانية : الإخوة إذا حجبوا الأم من الثلث إلى السدس فهم لا يرثون شيئا ألبتة ، بل يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس ، سدس بالفرض ، والباقي بالتعصيب ، وقال ابن عباس : الإخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه ، وما بقي فللأب ، وحجته الجمهور أن عند عدم الإخوة كان المال ملكا للأبوين ، وعند وجود الإخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ، ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا ، فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين ، كما كان قبل ذلك ، والله أعلم .

فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين ، كما كان قبل ذلك والله أعلم

قوله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } .

اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية ، وههنا مسائل :

المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين ، قال : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين ، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين ، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق ، فأما إذا لم يكن دين ، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء ، فإن أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل ، ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله .

المسألة الثانية : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين ، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية .

واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة «أو » لا تفيد الترتيب ألبتة .

واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين : الأول : أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان إخراجها شاقا على الورثة ، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين ، فإن نفوس الورث مطمئنة إلى أدائه ، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في إخراجها ، ثم أكد في ذلك الترغيب بإدخال كلمة «أو » على الوصية والدين ، تنبيها على أنهما في وجوب الإخراج على السوية . الثاني : أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية ، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له ، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية ، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين ، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى ، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الإرث ، وليس كذلك الدين ، فإنه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي ، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا ، فالوصية تشبه الإرث من وجه ، والدين من وجه آخر ، أما مشابهتها بالإرث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والإرث ، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم .

المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما معنى «أو » ههنا وهلا قيل : من بعد وصية يوصى بها ودين ، والجواب من وجهين : الأول : أن «أو » معناها الإباحة كما لو قال قائل : جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس ، فإن جالست الحسن فأنت مصيب ، أو ابن سيرين فأنت مصيب ، وإن جمعتهما فأنت مصيب ، أما لو قال : جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر ، فكذا ههنا لو قال : من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، أما إذا ذكره بلفظ «أو » كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده ، وكذلك إن كان كلاهما . الثاني : أن كلمة «أو » إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } وقوله : { حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } فكانت «أو » ههنا بمعنى الواو ، فكذا قوله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا .

المسألة الرابعة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم { يوصى } بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله . وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى : { مما ترك إن كان له ولد } .

قوله تعالى : { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما } .

اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله : { فريضة من الله } ومن حق الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه ، فنقول : إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد وأنصباء الأبوين ، وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات ، والإنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح ، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه ، وأنهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء ، وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء ، فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال : إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة ، وأما الإله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، فكأنه قيل : أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم ، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم ، فقوله : { وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة ، وقوله : { فريضة من الله } إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها ، وذكروا في المراد من قوله : { أيهم أقرب لكم نفعا } وجوها : الأول : المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة ، قال ابن عباس : إن الله ليشفع بعضهم في بعض ، فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة ، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه ، فقال : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك . الثاني : المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الإنفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث : المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد .

قوله تعالى : { فريضة من الله } هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما ، والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل إليها طباعكم ، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد ، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن ، ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها ، وهذا نظير قوله للملائكة : { إني أعلم ما لا تعلمون } .

فإن قيل : لم قال : { كان عليما حكيما } مع أنه الآن كذلك .

قلنا : قال الخليل : الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال ، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ، وقال سيبويه : القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا ، فقيل لهم : إن الله كان كذلك ، ولم يزل موصوفا بهذه الصفات .