مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِۖ ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (4)

واعلم أنه تعالى لما قرر هذا الأصل الدال على إثبات الإله ، وعلى إثبات كونه عادلا رحيما ، وعلى إثبات البعث والقيامة بنى عليه التفاريع :

فالفرع الأول : الرد على عبدة الأصنام فقال : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله } وهي الأصنام { أروني } أي أخبروني { ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات } والمراد أن هذه الأصنام ، هل يعقل أن يضاف إليها خلق جزء من أجزاء هذا العالم ؟ فإن لم يصح ذلك فهل يجوز أن يقال إنها أعانت إله العالم في خلق جزء من أجزاء هذا العالم ، ولما كان صريح العقل حاكما بأنه لا يجوز إسناد خلق جزء من أجزاء هذا العالم إليها ، وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء ، ولا يجوز أيضا إسناد الإعانة إليها في أقل الأفعال وأذلها ، فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو الله سبحانه ، وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو الله سبحانه ، والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم ، وذلك لا يليق إلا بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام ، فلما كان الخالق الحق والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى ، وجب أن لا يجوز الإتيان بالعبادة والعبودية إلا له ولأجله ، بقي أن يقال إنا لا نعبدها لأنها تستحق هذه العبادة ، بل إنما نعبدها لأجل أن الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها ، فعند هذا ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السؤال ، فقال : { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم } وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة ، فنقول هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان ، إما أن يكون على محمد أو في سائر الكتب الإلهية المنزلة على سائر الأنبياء ، وإن لم يوجد ذلك في الكتب الإلهية لكنه من تقابل العلوم المنقولة عنهم والكل باطل ، أما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم فهو معلوم البطلان ، وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه ، فهو أيضا باطل ، لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلهية على المنع من عبادة الأصنام ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : { ائتوني بكتاب من قبل هذا } ، وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء سوى ما جاء في الكتب فهذا أيضا باطل ، لأن العلم الضروري حاصل بأن أحدا من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام ، وهذا هو المراد من قوله { أو أثارة من علم } ولما بطل الكل ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل وقول فاسد وبقي في قوله تعالى : { أو أثارة من علم } نوعان من البحث .

النوع الأول : البحث اللغوي : قال أبو عبيدة والفراء والزجاج { أثارة من علم } أي بقية وقال المبرد { أثارة } ما يؤثر من علم أي بقية ، وقال المبرد { أثارة } تؤثر { من علم } كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان ، ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار يقال جاء في الأثر كذا وكذا ، قال الواحدي : وكلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال : ( الأول ) البقية واشتقاقها من أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار ( الثاني ) من الأثر الذي هو الرواية ( والثالث ) هو الأثر بمعنى العلامة ، قال صاحب «الكشاف » وقرئ { أثارة } أي من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم وقرئ { أثارة } بالحركات الثلاث مع سكون الثاء فالإثرة بالكسر بمعنى الأثر ، وأما الإثر فالمرأة من مصدر أثر الحديث إذا رواه ، وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر كالخطبة اسم لما يخطب به ، وهاهنا قول آخر في تفسير قوله تعالى : { أو أثارة من علم } وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال : { أو أثارة من علم } هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه » وعلى هذا الوجه فمعنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام ، فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم والله تعالى أعلم .