ثم قال تعالى : { وأن عليه النشأة الأخرى } وهي في قول أكثر المفسرين إشارة إلى الحشر ، والذي ظهر لي بعد طول التفكر والسؤال من فضل الله تعالى الهداية فيه إلى الحق ، أنه يحتمل أن يكون المراد نفخ الروح الإنسانية فيه ، وذلك لأن النفس الشريفة لا الأمارة تخالط الأجسام الكثيفة المظلمة ، وبها كرم الله بني آدم ، وإليه الإشارة في قوله : { فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر } غير خلق النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، وبهذا الخلق الآخر تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات ، وشارك الملك في الإدراكات فكما قال هنالك : { أنشأناه خلقا آخر } بعد خلق النطفة قال هاهنا : { وأن عليه النشأة الأخرى } فجعل نفخ الروح نشأة أخرى كما جعله هنالك إنشاء آخر ، والذي أوجب القول بهذا هو أن قوله تعالى : { وأن إلى ربك المنتهى } عند الأكثرين لبيان الإعادة ، وقوله تعالى : { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } كذلك فيكون ذكر النشأة الأخرى إعادة ، ولأنه تعالى قال بعد هذا : { وأنه هو أغنى وأقنى } وهذا من أحوال الدنيا ، وعلى ما ذكرنا يكون الترتيب في غاية الحسن فإنه تعالى يقول : ( خلق الذكر والأنثى ) ونفخ فيهما الروح الإنسانية الشريفة ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، ثم أقناه بالكسب بعد كبره ، فإن قيل : فقد وردت النشأة الأخرى للحشر في قوله تعالى : { فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } نقول الآخرة من الآخر لا من الآخر لأن الآخر أفعل ، وقد تقدم على أن هناك لما ذكر البدء حمل على الإعادة وهاهنا ذكر خلقه من نطفة ، كما في قوله : { ثم خلقنا النطفة علقة } ثم قال : { أنشأناه خلقا آخر } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : { على } للوجوب ، ولا يجب على الله الإعادة ، فما معنى قوله تعالى : { وأن عليه } قال الزمخشري على ما هو مذهبه عليه عقلا ، فإن من الحكمة الجزاء ، وذلك لا يتم إلا بالحشر ، فيجب عليه عقلا الإعادة ، ونحن لا نقول بهذا القول ، ونقول فيه وجهان ( الأول ) عليه بحكم الوعد فإنه تعالى قال : { إنا نحن نحيي الموتى } فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع ( الثاني ) عليه للتعيين فإن من حضر بين جمع وحاولوا أمرا وعجزوا عنه ، يقال : وجب عليك إذن أن تفعله أي تعينت له .
المسألة الثانية : قرئ : { النشأة } على أنه مصدر كالضربة على وزن فعلة وهي للمرة ، تقول : ضربته ضربتين ، أي مرة بعد مرة ، يعني النشأة مرة أخرى عليه ، وقرئ النشأة بالمد على أنه مصدر على وزن فعالة كالكفالة ، وكيفما قرئ فهي من نشأ ، وهو لازم وكان الواجب أن يقال : عليه الإنشاء لا النشأة ، نقول فيه فائدة وهي أن الجزم يحصل من هذا بوجود الخلق مرة أخرى ، ولو قال : عليه الإنشاء ربما يقول قائل : الإنشاء من باب الإجلاس ، حيث يقال في السعة أجلسته فما جلس ، وأقمته فما قام فيقال : أنشاء وما نشأ أي قصده لينشأ ولم يوجد ، فإذا قال : عليه النشأة أي يوجد النشء ويحققه بحيث يوجد جزما .
المسألة الثالثة : هل بين قول القائل : عليه النشأة مرة أخرى ، وبين قوله : عليه النشأة الأخرى فرق ؟ نقول : نعم إذا قال : عليه النشأة مرة أخرى لا يكون النشء قد علم أولا ، وإذا قال : { عليه النشأة الأخرى } يكون قد علم حقيقة النشأة الأخرى ، فنقول ذلك المعلوم عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.