مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَنَّ عَلَيۡهِ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰ} (47)

ثم قال تعالى : { وأن عليه النشأة الأخرى } وهي في قول أكثر المفسرين إشارة إلى الحشر ، والذي ظهر لي بعد طول التفكر والسؤال من فضل الله تعالى الهداية فيه إلى الحق ، أنه يحتمل أن يكون المراد نفخ الروح الإنسانية فيه ، وذلك لأن النفس الشريفة لا الأمارة تخالط الأجسام الكثيفة المظلمة ، وبها كرم الله بني آدم ، وإليه الإشارة في قوله : { فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر } غير خلق النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، وبهذا الخلق الآخر تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات ، وشارك الملك في الإدراكات فكما قال هنالك : { أنشأناه خلقا آخر } بعد خلق النطفة قال هاهنا : { وأن عليه النشأة الأخرى } فجعل نفخ الروح نشأة أخرى كما جعله هنالك إنشاء آخر ، والذي أوجب القول بهذا هو أن قوله تعالى : { وأن إلى ربك المنتهى } عند الأكثرين لبيان الإعادة ، وقوله تعالى : { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } كذلك فيكون ذكر النشأة الأخرى إعادة ، ولأنه تعالى قال بعد هذا : { وأنه هو أغنى وأقنى } وهذا من أحوال الدنيا ، وعلى ما ذكرنا يكون الترتيب في غاية الحسن فإنه تعالى يقول : ( خلق الذكر والأنثى ) ونفخ فيهما الروح الإنسانية الشريفة ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، ثم أقناه بالكسب بعد كبره ، فإن قيل : فقد وردت النشأة الأخرى للحشر في قوله تعالى : { فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } نقول الآخرة من الآخر لا من الآخر لأن الآخر أفعل ، وقد تقدم على أن هناك لما ذكر البدء حمل على الإعادة وهاهنا ذكر خلقه من نطفة ، كما في قوله : { ثم خلقنا النطفة علقة } ثم قال : { أنشأناه خلقا آخر } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : { على } للوجوب ، ولا يجب على الله الإعادة ، فما معنى قوله تعالى : { وأن عليه } قال الزمخشري على ما هو مذهبه عليه عقلا ، فإن من الحكمة الجزاء ، وذلك لا يتم إلا بالحشر ، فيجب عليه عقلا الإعادة ، ونحن لا نقول بهذا القول ، ونقول فيه وجهان ( الأول ) عليه بحكم الوعد فإنه تعالى قال : { إنا نحن نحيي الموتى } فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع ( الثاني ) عليه للتعيين فإن من حضر بين جمع وحاولوا أمرا وعجزوا عنه ، يقال : وجب عليك إذن أن تفعله أي تعينت له .

المسألة الثانية : قرئ : { النشأة } على أنه مصدر كالضربة على وزن فعلة وهي للمرة ، تقول : ضربته ضربتين ، أي مرة بعد مرة ، يعني النشأة مرة أخرى عليه ، وقرئ النشأة بالمد على أنه مصدر على وزن فعالة كالكفالة ، وكيفما قرئ فهي من نشأ ، وهو لازم وكان الواجب أن يقال : عليه الإنشاء لا النشأة ، نقول فيه فائدة وهي أن الجزم يحصل من هذا بوجود الخلق مرة أخرى ، ولو قال : عليه الإنشاء ربما يقول قائل : الإنشاء من باب الإجلاس ، حيث يقال في السعة أجلسته فما جلس ، وأقمته فما قام فيقال : أنشاء وما نشأ أي قصده لينشأ ولم يوجد ، فإذا قال : عليه النشأة أي يوجد النشء ويحققه بحيث يوجد جزما .

المسألة الثالثة : هل بين قول القائل : عليه النشأة مرة أخرى ، وبين قوله : عليه النشأة الأخرى فرق ؟ نقول : نعم إذا قال : عليه النشأة مرة أخرى لا يكون النشء قد علم أولا ، وإذا قال : { عليه النشأة الأخرى } يكون قد علم حقيقة النشأة الأخرى ، فنقول ذلك المعلوم عليه .