مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} (130)

قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }

اعلم أن هذه الآية من بقية ما يذكره الله تعالى في توبيخ الكفار يوم القيامة ، وبين تعالى أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل ، فيشهدون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين ، وإنهم لم يعذبوا إلا بالحجة . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال أهل اللغة : المعشر كل جماعة أمرهم واحد ، ويحصل بينهم معاشرة ومخالطة ، والجمع : المعاشر . وقوله : { رسل منكم } اختلفوا هل كان من الجن رسول أم لا ؟ فقال الضحاك : أرسل من الجن رسل كالإنس وتلا هذه الآية وتلا قوله : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } ويمكن أن يحتج الضحاك بوجه آخر وهو قوله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } قال المفسرون : السبب فيه أن استئناس الإنسان أكمل من استئناسه بالملك ، فوجب في حكمة الله تعالى أن يجعل رسول الإنس من الإنس ليكمل هذا الاستئناس .

إذا ثبت هذا المعنى ، فهذا السبب حاصل في الجن ، فوجب أن يكون رسول الجن من الجن .

والقول الثاني : وهو قول الأكثرين : أنه ما كان من الجن رسول البتة ، وإنما كان الرسل من الإنس . وما رأيت في تقرير هذا القول حجة إلا ادعاء الإجماع ، وهو بعيد لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف ، ويمكن أن يستدل فيه بقوله تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة ، فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء القوم فقط ، فأما تمسك الضحاك بظاهر هذه الآية ، فالكلام عليه من وجوه : الأول : أنه تعالى قال : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } فهذا يقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضا من أبعاض هذا المجموع ، وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضا من أبعاض ذلك المجموع ، فكان هذا القدر كافيا في حمل اللفظ على ظاهره ، فلم يلزم من ظاهر هذه الآية إثبات رسول من الجن . الثاني : لا يبعد أن يقال : إن الرسل كانوا من الأنس إلا أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل ويأتوا قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به ، كما قال تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } فأولئك الجن كانوا رسل الرسل ، فكانوا رسلا لله تعالى ، والدليل عليه : أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه . فقال : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة ، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين ، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق ، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة ، فكان المقصود حاصلا .

الوجه الثالث : في الجواب قال الواحدي : قوله تعالى : { رسل منكم } أراد من أحدكم وهو الإنس وهو كقوله : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب .

واعلم أن الوجهين الأولين لا حاجة معهما إلى ترك الظاهر أما هذا الثالث فإنه يوجب ترك الظاهر ، ولا يجوز المصير إليه إلا بالدليل المنفصل .

أما قوله : { يقصون عليكم آياتي } فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتلاوة وبالتأويل { وينذرونكم لقاء يومكم هذا } أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا عند ذلك إلا الاعتراف ، فلذلك قالوا : شهدنا على أنفسنا .

فإن قالوا : ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } .

قلنا : يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة ، فتارة يقرون ، وأخرى يجحدون ، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه .

ثم قال تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا } والمعنى أنهم لما أقروا على أنفسهم بالكفر ، فكأنه تعالى يقول : وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا .

ثم قال تعالى : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } والمراد أنهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم ، إلا أن عاقبة أمرهم أنهم أقروا على أنفسهم بالكفر ، ومن الناس من حمل قوله : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } بأن تشهد عليهم الجوارح بالشرك والكفر ، ومقصودهم دفع التكرار عن الآية ، وكيفما كان ، فالمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجرهم في الدنيا عن الكفر والمعصية .

واعلم أن أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى : { ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا } على أنه لا يحصل الوجوب البتة قبل ورود الشرع ، فإنه لو حصل الوجوب واستحقاق العقاب قبل ورود الشرع لم يكن لهذا التعليل والذكر فائدة .