مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

قوله تعالى : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون }

اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا ، فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا ، وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم ، ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه ، فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم ، بين ما لهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية ، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة . ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سببب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم ، وعند هذا يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا ، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا ، وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا . ومن الله التوفيق . وفيه مسائل :

المسألة الأولى : هذا الخطاب ، وإن كان في الظاهر مختصا بالرسول عليه السلام ، إلا أن المراد منه كل المؤمنين ، أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين ، ولا بأولادهم ولا بسائر نعم الله عليهم ، ونظيره قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك } الآية .

المسألة الثانية : الإعجاب : السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله ، فإنه لا يبعد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره ، والإنسان متى كان متذكرا لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء ، ولذلك قال عليه السلام : «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه » وكان عليه السلام يقول : «هلك المكثرون » وقال عليه السلام : «مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت » وذكر عبيد بن عمير ، ورفعه إلى الرسول عليه السلام : «من كثر ماله اشتد حسابه ، ومن كثر بيعه كثرت شياطينه ، ومن ازداد من السلطان قربا ، ازداد من الله بعدا » والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة ، والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا ، والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها . قال بعض المحققين : الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : الأول : الذي يكون أزليا أبديا ، وهو الله جل جلاله والثاني : الذي لا يكون أزليا ولا أبديا وهو الدنيا . والثالث : الذي يكون أزليا ولا يكون أبديا وهذا محال الوجود ، لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه . والرابع : الذي يكون أبديا ولا يكون أزليا وهو الآخرة وجميع المكلفين ، فإن الآخرة لها أول ، لكن لا آخر لها ، وكذلك المكلف سواء كان مطيعا أو كان عاصيا فلحياته أول ، ولا آخر لها .

وإذا ثبت هذا ثبت أن المناسبة الحاصلة بين الإنسان المكلف وبين الآخرة أشد من المناسبة بنيه وبين الدنيا ، ويظهر من هذا أنه خلق للآخرة لا للدنيا ، فينبغي أن لا يشتد عجبه بالدنيا ، وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا .

أما قوله : { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال النحويون : في الآية محذوف ، كأنه قيل : إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم ، ويجوز أيضا أن يكون هذا اللام بمعنى «أن » كقوله : { يريد الله ليبين لكم } أي أن يبين لكم .

المسألة الثانية : قال مجاهد والسدي وقتادة : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وقال القاضي : وههنا سؤالان : الأول : وهو أن يقال : المال والولد لا يكونان عذابا ، بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده ، فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير ، فكيف يكون المال والولد عذابا ؟ فلابد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا أراد التعذيب بها من حيث كانت سببا للعذاب ، وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير ، لأنه يصح أن يقال يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سببا للعذاب ، وأيضا فلو أنه قال : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا } لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة ، لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا ، وليس كذلك حال العذاب ، فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة ، فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء .

المسألة الثالثة : الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سببا للعذاب في الدنيا ، ويحتمل أن تكون سببا للعذاب في الآخرة . أما كونها سببا للعذاب في الدنيا فمن وجوه : الأول : أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى ، كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب ، وكان خوفه على فواته أشد وأصعب ، فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها ، وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها . فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب إما بسبب خوف فواتها وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها . والثاني : أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها ، فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه ، فالمشغوف بالمال والولد أبدا يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك ، ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال ، فالتعب كثير والنفع قليل . والثالث : أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد ، فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره ، أولا تبقى ، بل تهلك وتبطل . فإن كان الأول ، فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته ، لأن مفارقة المحبوب شديدة ، وترك المحبوب أشد وأشق ، وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها ، واشتد تألم قلبه بسببها ، فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا . الرابع : أن الدنيا حلوة ، خضرة ، والحواس مائلة إليها ، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها ، فيصير ذلك سببا لحرمانه عن ذكر الله ، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر ، وكلما كان المال والجاه أكثر . كانت تلك القسوة أقوى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب ، فعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة ، فيعظم تألمه وتقوى حسرته ، ثم عند الحشر حلالها حساب ، وحرامها عقاب . فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة .

فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل ، فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب ؟

قلنا : المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب : أحدها : أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا ، فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا ، وأما المنافق لما اعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها ، واشتد حبه لها ، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه ، وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته ، فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد . وثانيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ، ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو ، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل ، والقوم كانوا يعتقدون أن محمدا ليس بصادق في كونه رسولا من عند الله وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة ، وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ، ولا شك أن هذا أشق على القلب جدا ، فهذه الزيادة من التعذيب ، كانت حاصلة للمنافقين . وثالثها : أنهم كانوا يبغضون محمدا عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ، ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته ، ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة . ورابعها : أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما ، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار ، وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل ، وسبي الأولاد ونهب الأموال ، وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة ، وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب . وخامسها : أن كثيرا من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء ، كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ، شهد بدرا وكان من الله بمكان ، وهم خلق كثير مبرئون عن النفاق وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ، ويقدحون فيهم ، ويعترضون عليهم ، والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به واستيحاشه منه ، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم . وسادسها : أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات ، ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم . وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء ، كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس ، ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق ، وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سببا لحصول هذه الأحوال ، فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سببا لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم .

المسألة الرابعة : احتج أصحابنا في إثبات أن كل ما دخل في الوجود فهو مراد الله تعالى بقوله : { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } قالوا : لأن معنى الآية أن الله تعالى أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر ومن أراد ذلك فقد أراد الكفر .

أجاب الجبائي فقال : معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين ، وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريدا للكفر ، ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب : أريد أن تدخل علي في وقت مرضي ، فهذه الإرادة لا توجب كونه مريدا لمرض نفسه ، وقد يقول للطبيب : أريد أن تطيب جراحتي ، وهذا لا يقتضي أن يكون مريدا لحصول تلك الجراحة ، وقد يقول السلطان لعسكره : اقتلوا البغاة ، حال إقدامهم على الحرب ، وهذا لا يدل على كونه مريدا لذلك الحرب ، فكذا ههنا .

والجواب : أن الذي قاله تمويه عجيب ، وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد ، وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء ، فإذا قال المريض للطبيب : أريد أن تدخل علي في وقت مرضي ، كان معناه : أريد أن تسعى في إزالة مرضي ، وإذا قال له : أريد أن تطيب جراحتي كان معناه : أريد أن تزيل عني هذه الجراحة ، وإذا قال السلطان : اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب ، كان معناه : طلب إزالة تلك المحاربة وإبطالها وإعدامها ، فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته فيمتنع أن يكون وجوده مرادا بخلاف هذه الآية ، وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره ، وليس أيضا مستلزما لتلك الإزالة ، بل هما أمران متناسبان ، ولا منافاة بينهما البتة ، فلما ذكر الله في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين ، وجب أن يكون مريدا لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق ، كما أنه لو قال : أريد ألقى أن فلانا حال كونه في الدار ، فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار ، وتمام التحقيق في هذا التقدير : أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر ، ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته ، فلما أراد الله الإزهاق حال الكفر ، وثبت أن من أراد شيئا فقد أراد جميع ما هو من ضروراته ، لزم كونه تعالى مريدا لذلك الكفر ، فثبت أن الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه .